رواية سلانديرا الفصل السادس والثلاثون 36 بقلم اسماعيل موسي
#سلانديرا
٣٦.
في الليلة التي تلت زفافه بزافيرا، لم ينم خاطر.
السكينة التي شعر بها بين ذراعيها لم تكن كافية لإطفاء النار المتصاعدة داخله.
كأنه كان يعرف أن هذا السلام هشّ، لحظي، وأن عيونًا تراقبهم في صمت.
وحين وصلت أخبار شيفان، وأمره الصريح بإبادة القرية… فهم خاطر.
كان لا بد من الاختيار.
إما أن يبقى، ويعرّض زافيرا والقرية للفناء،
أو يرحل… ويقطع الخيط الذي ربط قلبه بمملكتها، ولو إلى حين.
---
قبل الفجر.
تسلل من الكوخ، مع زافيرا، التي التى فتحت عينيها مبتسمه كأنها تحلم بالسلام ذاته الذي يخشاه.
خرجا إلى ضفة النهر، حيث التقيا بالعجوز التي ربطته بزافيرا قبل أيام.
قالت له دون أن يسأل:
"رأيت ذلك في مياهي. كنتَ ستختار الرحيل."
أومأ خاطر بصمت.
فأشارت إلى مدخل الممر السري بين الصخور، نفس الممر الذي رأوه بعد زفافه، حين ظنّه مجرد ذكرى منسية.
"هذا الممر يا بني… يقودك إلى أرضك. لن يتبعك أحد. هو آخر ما تبقى من سحر العصور الأولى."
همس خاطر:
انت مستعده زافيرا لتوديع عالمك إلى الأبد؟
اومأت زافيرا برأسها
"هي تعرف. كانت تعرف من البداية. لكنها آمنت بك رغم ذلك."
وقبل أن يدخل، ناولته زجاجة صغيرة من ضوءٍ سائل
هذا فى حال قررت العوده لأى سبب كان
---
عالم البشر.
عبر الممر الطويل المظلم، ثم استيقظا في حقل مهجور قرب أطراف بلدة بشرية.
كان جسديهما مثقلًين كأنهما تركا قطعة من روحهما خلفهم
أقاما في القرية الصغيرة، باسم مستعار.
عمل خاطر نجارًا، يعلم الأطفال كيف يُنصتون للخشب قبل أن يقطعوه.
وكان احتفظ بالزجاجة في رقبته.
وكانت تلمع فى كل مره حين يقترب القمر من المذنب الغافي.
---
في كل ليلة.
كان ينظر إلى السماء.
يرى النجمة التي ظهرت يوم زواجهما.
كانت لا تزال هناك…
تلمع، تقاوم، رغم كل شيء.
مرت سنوات.
لم يكن الزمن في عالم البشر يشبه زمن الجان، لكنه كان كافيًا لتزهر السكينة بين جدران كوخ صغير، محاط بكروم الياسمين، وعطر التفاح البري.
في ربيع ناعم، ولدت زافيرا طفلة، كانت تشبهها… لكن عيناها كانتا بلون عيني خاطر.
سمّياها ليارا.
كانت تضحك فتزهر الأرض، وتبكي فتهطل أمطار خفيفة من لا مكان.
كبرت ليارا وسط أغاني أمها بلغتها القديمة، وقصص أبيها عن مدن البشر، وذكريات لم تُحكَ بالكامل.
أحبها الناس، ولم يعرفوا سرّ العائلة التي جاءت من النهر ذات ليلة.
---
كانت زافيرا ترسم، وتغني، وتزرع النعناع والزعتر.
وكان خاطر يعلّم الأطفال كيف يُصغون، لا فقط للكلمات، بل لنبض الخشب، ولصمت الأشياء.
كل شيء بدا طبيعيًا، جميلًا، مستقرًا.
---
وفي إحدى الليالي…
اقترب القمر أكثر من المذنب الغافي.
ولأول مرة منذ أعوام…
لم تلمع الزجاجة في عنق خاطر.
ظلت صامتة.
باهتة.
كما لو أن شيئًا ما قد انكسر في السماء.
خرج خاطر إلى التل الصغير حيث كان يتأمل دائمًا.
ووجد زافيرا هناك، تنتظره، وعيناها مضيئتان بقلق لا يشيخ.
قالت له بهدوء:
"الزمن، خاطر… بدأ يلاحقنا."
ردّ بصوت منخفض:
"كنت عارف إن السلام دا مش أبدى… بس كنت بتمناه يطول."
نظرت إليه، ثم إلى السماء:
"حسيت بحاجة؟"
"حد بينادي… من بعيد… مش بصوت… بحاجة أعمق.
كأن الدم بيتذكر،
وكأن الأرض بتفتكر،
والمذنب بيصحى."
---
في تلك الليلة… حلمت ليارا بأجنحة.
قالت لأبيها في الصباح:
"بابا… كنت بحلق. كنت طايرة، وجوايا نار خضرا…
وفيه حد بيناديني من ورا الجبل."
تبادل خاطر وزافيرا النظرات.
هما فقط…
فهما ما تعنيه تلك الأحلام.
---
مرت سبع سنوات منذ عبر خاطر وزافيرا إلى عالم البشر.
سبع سنوات من السكينة النادرة، من الضحك الخفيف في الصباح، من صوت ليارا وهي تجري بين الحقول بأقدامها العارية، شعرها الفضي يتطاير كأنه بقايا سحر.
كان خاطر قد نسي شكل الخوف.
لكن الخوف… لم ينسه.
في مساء خريفي هادئ، وبينما كانت زافيرا تجمع الحطب من الغابة القريبة، سمع خاطر طرَقات خفيفة على باب الكوخ.
فتح…
كانت العجوز.
لم تكن تنحني كما اعتادها. وقفت مستقيمة، بشعرها الرمادي المنسدل ونظرة غائرة، كأنها قطعت الطريق من زمن آخر.
قالت قبل أن يفتح فمه:
"شيفان… عرف."
شهق خاطر. زافيرا التي عادت في اللحظة نفسها، جمّدت خطواتها قبل أن تنطق.
تابعت العجوز بصوت بارد:
"عرف مكانكم. لم يعد في مملكة الجان ما يشغله بعد أن أتم السيطرة. والآن… يريد استعادة ما يعتبره خيانة."
همس خاطر:
"بس الممر السري… قلتِ محدش يعرفه."
أجابت:
"أعرف ماذا قلت. لكن هناك من خان. هناك من دلّه… بثمن. وربما كان الثمن دمك، أو دمها."
نظرت نحو ليارا، التي وقفت عند عتبة الغرفة، تحدق بالعجوز بعينين لامعتين.
قالت زافيرا بهمس مرتجف:
"إذن بدأ البحث… بدأ الصيد."
أومأت العجوز:
"هو لا يرسل جيوشًا هذه المرة… بل سيأتي بنفسه."
اقتربت من ليارا، وانحنت ببطء لتحدّق في وجهها.
"طفلتكما… ليست كغيرها.
فيها من سحر الجان، ومن دم البشر،
لكن فيها أيضًا ما لم أتوقعه…"
سألت زافيرا بخوف:
"ماذا تعنين؟"
ردّت العجوز:
"ستفهمون قريبًا. لكن اعلموا أن النجوم بدأت تتحرك،
وأن نجمًا آخر قد يسقط… لو بقيتم هنا."
سألها خاطر:
"نعمل إيه؟ نهرب تاني؟"
قالت:
"ما عاد هناك مهرب. لكن هناك اختيار.
إما أن تقاتلوا… أو تواجهوا ثمن الحب."
ثم اختفت كما جاءت… كأنها لم تكن.
---
في تلك الليلة، لم ينم أحد في الكوخ.
كان في عيني خاطر بريق لم تره زافيرا منذ سنوات.
وفي يد ليارا…
كان هناك خيط من نار خضراء، ينبض بهدوء.
كأنه يعرف أن الوقت قد اقترب