رواية حكاية هند الفصل الخامس عشر 15 بقلم رحيق عمار


 رواية حكاية هند الفصل الخامس عشر 15 بقلم رحيق عمار


15

بصّتلي الجدة بعينين فيها وجع السنين، ومسحت دمعتها بسرعة كأنها بتحارب إنها تبان ضعيفة، وقالت بصوت هادي لكن حاسم:


"أنا؟ أنا اللي ضيعتكوا؟!

أنا اللي شِلت فوق كتافي أسرار تشيب، وأنا اللي شفت ولادي بيتقتلوا واحد ورا التاني وفضلت ساكتة…

مش عشان خايفة، لا، عشان شايفة إن اللي بيحصل أكبر مننا كلنا!

شغل العيلة ده مش شوية ورق وأراضي، ده بنيان اتبنى بالدم، بسنين تعب وشغل في الضلمة… وجدك، يوسف الكومي، وهو بيموت، وصّاني: العيلة دي لو سابت اللي بنيناه، هتتحرق."


قربت مني وأنا واقفة مصدومة وقالت:


"كنت عايزاكي إنتي يا هند تباشري الشغل، عشان إنتي اللي فيكِ العقل، مش زي ولاد عمامك اللي شايفين الدنيا أبيض وأسود.

كنت عايزاكي تبقي قد المسؤولية، زي ما كان جدك شايف، مش تهربي وتسيبي كل حاجة تنهار."


عُمر اتقدّم وقال بحدة:


"مسؤولية إيه؟ تهريب وسلاح وناس بتموت؟ هو ده اللي عايزة تورّثيه؟!"


مي دخلت وقالت وهي متعصبة:






"ومين قالك إننا عايزين نكمل السواد ده؟! إحنا طول عمرنا بنهرب من الشبهات اللي حوالينا، وإنتي جايه دلوقتي تقولي شرف العيلة؟!

إحنا عايزين نعرف الحقيقة… مش نكمّل الكذبة!"


الجدة صوتها علي، وبقت بتزعق لأول مرة:


"الكذبة دي هي اللي مأكلاكم وشايلكي انتي وابنك يا إيمان ولا نسيتيه!

لو كنتوا سمعتوا الكلام من زمان، لو كل واحد فيكم وقف وقفة راجل، ماكنّاش وصلنا للّي إحنا فيه…

جدكم كان بيحارب وحوش، مش بيبني مزرعة فراولة!

واللي زيكم لو مامسكش زمام الأمور… هيدوسوا علينا، ويموت الاسم اللي عملوا جدكم ويتكتب ع التراب."


أنا كنت سامعة كلامها، بس قلبي بيتفرم، كل اللي حواليّ بيتشقلب، سنين من التوهان وكره النفس طلع ليه جذور... وأنا جزء منها!


بس برغم كده، لقيت نفسي بقول:


- لا… حتى لو اللي بتقوليه ده صح، أنا مش هبيع ضميري عشان اسم، ولا علشان وصية.

أنا مش حجر، أنا بني آدمه… وعندي حق أعيش من غير دم.


عُمر قال وهو بيشد إيدي:


"تعالي يا هند… إحنا لازم نلاقي زهرة، ده الأهم دلوقتي."


مي بصّت للجدة وقالت بحزن:


"إنتي خسرتي ولادك… ومتستنيش مننا نكمل نفس الطريق، وابني منستهوش وهرجعله تاني."


ومشينا.


خرجنا من البيت اللي كان زمان بيتنا، وبقى دلوقتي مجرد أطلال، فيه ذكريات سودة، وجدران بتتفرج علينا وإحنا بنمشي بعيد.


لكن وإحنا بنعدي البوابة، الجدة ندهت على واحد من الرجالة اللي واقفين برّه، وهمستله:


"بلّغ حسن… وقلّه إن ولاد عبد الحميد وعزت بيدوروا على زهرة…

ولو لقوها، كل اللي بنيناه هينهار…"


الراجل هز راسه ومشي بسرعة…

واللعبة بدأت، والخطر بقى أضعاف.


ودلوقتي...

العد التنازلي بدأ.






خرجنا والسكوت كان مالي الجو، كل واحد فينا غرقان في أفكاره، بس كان فيه اتفاق صامت بينا… لازم نلاقي زهرة قبل ما بعملوا فيها حاجة.


عُمر فتح العربية بسرعة وقال:


"أنا فاكر إن ابويا كان بيكلم واحد اسمه مصباح، مش من العيلة… وسمعتهم مرة بيتكلموا عن مكان بعيد عن هنا، اسمه الضهرية، تفتكروا إيه المكان دا؟"


مي ردّت وهي بتبص قدامها بتفكير:


"الضهرية دي مش كانت فيها أرض زمان بتاعة جدنا؟ بس ماحدش كان بيروحها لإنها كانت مهجورة!"


أنا حسّيت بنغزة في قلبي، افتكرت حاجة!


- استنوا… استنوا شوية! أنا فاكرة خريطة مرسومة في أوضة جدّي، كانت على شكل خريطة… وكان دايما يقول أرض الضهرية بس انا فكرتها خيال …


عُمر قال:


"يعني الرسمة دي مش مجرد لوحة قديمة… دي خريطة؟!"


هزيت راسي:


- أيوه، وجدّي كان دايمًا يقول إن الرسمة دي العلامة، بس كنا فاكرينها حكاوي خيالية من بتاعت جدي!


مي قالت بسرعة:


"يبقى لازم نروح الضهرية، يمكن زهرة هناك… أو على الأقل نلاقي دليل."


رحنا على الضهرية، الطريق كان طويل، الشجر بيغطي النور، وكل ما نقرب، إحساس غريب بيكبر جوايا… كأن المكان بيستنّانا.


وصلنا قدام بيت قديم في نص الغيطان، باين عليه إنه مهجور من سنين، بس الباب مفتوح كأن حد كان لسه خارج منه.


دخلنا بحذر، والهوا كان تقيل كأنه شايل أسرار.


عُمر مسك كشاف وبدأ يفتش المكان، مي لقت دفتر صغير على الأرض، فتحته وقرت بصوت عالي:


"لو قريتوا الكلام ده، يبقى أنا هربت من اللي كانوا خاطفني، بس لسه في أمل… قابلوني عند جدتي عزيزة، اللي بتشتغل في فرن البلد"


أنا بصيت لهم وقلت:


- يعني زهرة كانت بتحاول تهرب، بس مين جدتها عزيزة دي؟ 


عُمر رد وهو بيقفل الكشاف:


"جدتي لأمي… بس زهرة متعرفش مكانها ولا زهرة بتعرف تكتب دي محبوسة من وهي عيلة لا راحت مدارس ولا اتعلمت!!."


قولت وانا بفكر وبضيق عيني:

- دا أكيد فخ.. إحنا نروح بس ناخد حذارنا.


روحنا على فرن البلد، كانت الست عزيزة ست كبيرة في السن، لكن استني...عنيا وسعت من الصدمة!! دي الست العجوزة اللي دايما بتظهرلي وتحذرني من حاجات قبل ما تحصل!!


أول ما شافتنا، عنيها دمعت:

"كنتم لازم توصلولي من بدري…أختك زهرة رجعت لحضننا تاني ياعمر."


عمر قال بلهفة:

"انا قولت انتي اللي انقذتيها؟!! هي فين ياجدتي"


ردت بابتسامة:

"متقلقش ياحبيبي، نايمة جوا"


عزيزة بصّت لي وابتسمت إبتسامة مكر لانها فاهمة سبب زهولي وقالت بصوت واطي:

"تعالي يا هند...متستغربيش، حاجات كتير اوي فاتتك لما سبتي البلد"


دخلنا البيت وانا كنت عاملة زي اللي مضروبة علي دماغها مش فاهمه حاجة..كل ما أقول عرفت الحقيقة كلها تطلعلي حاجة تانية تجنني!!


لفت انتباهي زهرة اللي كانت نايمة في أوضة صغيرة جنب الفرن، ملامحها هادية كأنها أول مرة تنام بأمان من سنين.

أنا كنت واقفة مش مصدقة… مش بس عشان زهرة، لكن عشان الست العجوزة اللي كانت بتطاردني وكلامها الحقيقي، هي كمان جزء من العيلة والسر!


عُمر قرب من جدته وقال:


" إزاي عرفتي مكان زهرة؟ وإزاي قدرتي تطلعيها من اللي تحت أيديهم؟ إحنا دوّخنا عليها!"


عزيزة خدت نفس طويل، وقالت:


"أنا كنت متابعاها من بعيد، وعارفة هما مخبيينها فين، بس كنت مستنية اللحظة المناسبة… زهرة كانت تحت عيني من ساعة ما هربتوا من بيت الخطار"






مي قالت:

"طب إنتي عرفتي منين إنها لسة عايشة دا الكل عارف أنها ماتت؟!"


عزيزة بصّت لمي والدموع اتجمعت في عنيها وقالت:

"إحساسي عمره ما كدب… انا وعدت ليلي إني هحافظ لها علي ولادها مش هسيب اي حاجة تأذيهم، زهرة مينفعش تموت، الرسمة اللي على إيد زهرة، مش مجرد وشم عادي… دا مفتاح السر كله"


أنا قلت:

- طب ليه كنتي بتظهرلي وتقوليلي حاجات بتحصل؟


"عشان أنتي كمان يا هند جزء من السر"


استغربت وقولتلها:

- إزاي!!


قامت بصعوبة وقربت مني وهي بتحط ايديها علي الجزء الخلفي من رقبتي من تحت في النص بظبط:

"هنا، راسمه بتكمل مكان السر"


افتكرت الرسمة اللي دايما بشوفها في المراية، على شكل هلال مقلوب، جواه عين صغيرة جدًا مفتوحة بنص جفن، كأنها بتراقب من بعيد، والعين دي محفور حواليها دواير دقيقة جدًا متشابكة!!


كملت عزيزة وقالت:

"الرسمة اللي على إيد زهرة واللي علي رقبة هند، كانت فكرة "عزت" اللي رسمها بإيده … عشان لو حصله حاجة، تقدروا توصلوا للسر اللي مخبّيه هو وعبد الحميد… في مكان لا المزرعة ولا البيت الكبير يقرّبوا له"


عُمر قال وهو مبرق:

" يعني كلام ستي الكبيرة كله كدب؟"


عزيزة ابتسمت بس بخبث وقالت:

"مش كله، بس كانت بتلعب بيكوا كنت عارفة انها هتعمل كده… خلتكم تدوروا في دايرة، وتفتكروا إن المزرعة هي أصل السر، وهي عارفة إن مفيهاش غير وهم… وهم اتبنَى من خوفهم من الحقيقة."


مي قالت وهي بتقرب من عزيزة:

"طب وإحنا دلوقتي نعمل إيه؟ فين المكان اللي المفروض نروحه؟"


عزيزة اتحركت وهي بتتسند علي عكازها الأسود وراحت ناحية دولاب قديم، وطلعت منه لفافة قماش ملفوفة بحذر، وفتحتها قدامنا…


...يتبع...

#رحيق_عمار


              الفصل السادس عشر من هنا 

لمتابعة باقي الرواية زوروا قناتنا على التليجرام من هنا   

تعليقات
تطبيق روايات
حمل تطبيق روايات من هنا



×