رواية سلانديرا الفصل الاربعون 40 بقلم اسماعيل موسي

رواية سلانديرا الفصل الاربعون 40 بقلم اسماعيل موسي

 

#سلانديرا


40


شيفان لم ينسَ الأنفاق…


تلك الأنفاق التي حفرتها أيدٍ بشرية هاربة، والتي تحولت بمرور الزمن إلى أوكار مقاومة، وخطر متزايد لا يمكن تجاهله. كان يعرف أن البشر وإن خافوا، فإنهم حين يختبئون يُصبحون أكثر عنادًا. والآن، مع خاطر وجيشه الصغير يتحركون في الخفاء، باتت تلك الأنفاق تهديدًا مباشرًا لا بد من استئصاله من الجذور.


**


في فجر رمادي، وقفت فرقة "النواة الحارقة" على مشارف الأنفاق. لم تكن جيشًا عدديًا، بل كتيبة من نخبة الجان، يحملون قنابل نارية صنعت في أفران محرّمة، تحتوي على لهب لا يطفئه ماء ولا تُخمده تعاويذ.


بإشارة من القائد، أُلقيت القنابل في مداخل الأنفاق… لا صوت انفجار، بل تنهيدة نار طويلة، تشق الأرض قبل أن تتصاعد ألسنة اللهب في الداخل كأنها تستفيق من سبات.


**


داخل الأنفاق، كان البشر يصرخون.


الجدران احترقت، والخوف امتزج بالدخان. الحجر تفتّت، والهواء امتلأ بروائح الجلد المحترق والخشب المشتعل. الأنفاق التي كانت ملاذًا، تحولت إلى مصيدة من جمر.


خرجوا… واحدًا تلو الآخر… رجال، نساء، أطفال، يسعلون، يجرّون أجسادهم من بين اللهب، فقط ليجدوا أنفسهم محاصرين.


**


كان جنود شيفان بانتظارهم في حلقات متناسقة، سيوفهم تلمع، أعينهم لا ترمش. لم يرفعوا سلاحهم فورًا، بل تركوهم يشهدون نهاية الملجأ… ليتشربوا الخوف في أكمل صوره.


حين سقط آخر مدخل، وابتلعته النيران، دوّى صوت القائد:


"اركعوا… أو موتوا."


**


لم يكن أمام البشر سوى خيارين: الخضوع… أو أن يموتوا واقفين، بلا نار تحرق، لكن بسيوف لا تعرف الرحمة.


وفي مكان بعيد، في الظلال، راقب شيفان المشهد من مرآة معتمة.


قال بهدوء:


"عندما تُغلق الأرض، لا يبقى سوى أن ينظروا إلى السماء… ولا أحد هناك ليسمعهم."

في اللحظة التي بدأ فيها الضباب الأسود يزحف عبر جدران النفق، ممزوجًا برائحة الرماد والسحر، عرف خاطر أن البقاء لم يعد خيارًا.


كان الأطفال يصرخون في نومهم، وزافيرا تقاتل كي لا تنهار أمام نظرات ليارا المرتبكة. الصخور كانت تهتز، والهواء يغلي من التعاويذ.


مدّ خاطر يده إلى عنقه، حيث تعلّق مفتاح الضباب — القطعة الوحيدة التي لم يلمسها شيفان، رغم أنها كانت يومًا في قصره.


**


صرخ خاطر بصوت سمعه الجميع:

"نحو الحافة الغربية! بسرعة! هناك فقط يمكننا العبور!"


**


في الممر الأخير، وبينما ارتجّت الأرض وبدأ الضباب يخترق الدوائر السحرية، رسم خاطر علامة غريبة على جدار صخري متشقق، ثم غرس المفتاح داخله.


لم يحدث شيء لثانية… ثم، وببطء، انفتح الشق، كأن الجدار يتنفس للمرة الأولى.


من الداخل، اندفع ضوء كثيف، أبيض مائل للزرقة، وابتلعتهم دوامة من الرياح والهمس.


**


كانوا ثلاثة فقط من عبروا: خاطر، زافيرا، وليارا.


أما الآخرون، فقد تولى الظلال المعكوسة أمرهم — تاه بعضهم، ووقع بعضهم في شرك أوهامهم، وهناك من قاتل حتى الرمق الأخير ليؤخر الجان ولو للحظة.


**






حين خرجوا من الدوامة، وجدوا أنفسهم في غابة لا تشبه شيئًا في عالم الجان.


السماء بلون النحاس، والأشجار مقلوبة جذورها في الأعلى، والهواء ينبض كأنه كائن حي.


ركعت زافيرا، تمسك بليارا، تلهث.


قال خاطر، وهو ينظر إلى الأفق:


"هذه الأرض لا تعرف شيفان… لكنها تعرفنا. علينا أن نبدأ من هنا."


نظر خلفه، حيث ما زال المفتاح يتوهج، ثم غرسه في الأرض حتى اختفى.


"لن يتبعنا أحد… ليس بعد الآن."


**

لكن في الظل، وعلى قمة التل، كان هناك شيء يراقبهم.


ليس من الجان، ولا من البشر.


بل شيء آخر… قديم، وينتظر.


**هبت ريح باردة عبر الغابة النابضة، تحمل معها صدى خطوات لا تُرى.


وقفت زافيرا ببطء، وقد زال شحوب وجهها قليلاً، بينما ليارا تشبثت بذراع والدها، تنظر حولها بعينيها الواسعتين.


قالت بصوت خافت، "بابا... في شي بيبص علينا."


لم يرد خاطر. كان قد رآه منذ لحظة.


على قمة التل، بين جذور شجرة مقلوبة، وقف كائن طويل القامة، نحيل للغاية، وجهه مغطى بقناع حجري لا ملامح له، وعيناه ثقبان يلمعان بلون العقيق الداكن.


لم يتحرك. ولم يبدُ حيًا تمامًا.


لكن خاطر عرفه.


"حارس الممرات."


همست زافيرا كأنها تتذكّر من كتب السحر القديمة، من قصص الأمهات التي لم تُروَ كاملة.


"ظننا أنهم ماتوا جميعًا."


"لا." قال خاطر، يمدّ ذراعه أمام ابنته. "الحراس لا يموتون. فقط... ينامون."


**


اقترب الكائن، لا بخطوات، بل كأنه ينساب في الهواء. ووقف على بُعد أمتار منهم. ثم تكلم بصوت معدني، كأن صخورًا تُفرك ببعضها:


"من عبر بدون إذن؟"


ردّ خاطر بثبات:

"أنا من سرق المفتاح من قصر شيفان. وأنا من استيقظ الممر. إن كنا تعدّينا عرف الأرض، فخذني واتركهما."


نظر الكائن إلى ليارا، ثم إلى زافيرا، ثم عاد ينظر إلى خاطر، طويلاً.


ثم قال:


"لا أحد يعبر بلا ثمن. لا أحد يخرج بلا أثر."


وفي لحظة، غاص الكائن في الأرض، تاركًا خلفه حفرة صغيرة ينبعث منها ضوء رمادي خافت، يتصاعد منه همس يشبه البكاء.


أمسكت زافيرا بذراع خاطر بقوة:


"هو ما قالش الثمن."


رد خاطر، وصوته مليء بالقلق:


"ما قالوش... لأنه لسه بيختار."


**


في السماء، فوقهم، بدأت نجمة واحدة تتحرك.


ضوءها كان بنفسجيًّا... وكان يتجه نحوهم.


وكان هناك اسم يُهمس في الريح:


"ليارا..."


وكل شيء بعدها، تغير.


ثبّت خاطر قدميه على الأرض، واحتضن ليارا بذراعه اليمنى، بينما امتدت ذراعه الأخرى أمامه كدرع يحميها.


"ليارا مش للثمن، ولا هتكون."

قالها ببطء، وكل حرف كأنه طعنة في قلب الظلام الذي كان يحيط بهم.


زافيرا سحبت خنجرًا صغيرًا من بين طيات عباءتها، خنجرًا نحاسيًا محفورًا عليه تعاويذ قديمة بلغة لا تُقرأ إلا عند الحدود. عيناها كانتا دامعتين، لكنها وقفت بجانبه، كأنها تعي أن ما سيحدث بعد لحظات سيُغير كل شيء.


الضوء البنفسجي اقترب أكثر. النجمة تحولت إلى كرة لهب، ثم إلى طيفٍ من الدخان المتوهج، ومنه خرج كائن، لم يكن بشرًا، ولا جانًا.


كان طويلًا، يلبس عباءة نسجت من الضباب، ووجهه لا شكل له، يتغير كل لحظة، مرة يشبه وجه خاطر، ثم زافيرا، ثم... ليارا.


صاح خاطر:


"كفى! لن تأخذوها! المفتاح سرقته، والممر فتّحته، والثمن ادفعه أنا. أنا وحدي!"


ضحك الكائن، ضحكة خافتة ملتوية، ثم قال:


"أنت تظن أنك اخترقت قصر شيفان وسرقت مفتاح الضباب هكذا؟ أنت فتحت الباب... لكن الثمن لم يكن مفتوحًا لك."


تقدّم خطوة.


تصلبت الأرض تحتهم، كأن العالم يحبس أنفاسه.







همست زافيرا:

"خاطر، ده مش حارس. ده من ورا الحُرّاس. ده صدى قديم… من اللي كان قبل الممرات نفسها."


التفت إليها خاطر، وقال بنبرة هادئة رغم كل شيء:


"ساعتها لازم نذكّره إننا مش بشر عاديين. وإنه نسي مين اللي بيتحدى شيفان في قلب مملكته."


ثم نظر لابنته، انحنى نحوها، وهمس:


"خلي عينك عليا، ليارا. هتشوفي بابا بيحارب علشانك."


ثم نهض، ورفع المفتاح — قطعة صغيرة من العظم الرمادي، محفور في قلبها شكل متاهة.


وهمس:


"بمفتاح الضباب، بفتح قيد الزمان."


وفُتح الممر مرة أخرى، لكن هذه المرة لم يكن للهرب. كان للقتال.


الغابة اهتزت، والريح صرخت، والدخان البنفسجي التف حولهم كجدار حي.


المواجهة بدأت.

اشتعلت الأرض تحت أقدام خاطر، والضباب البنفسجي من حوله انقلب نارًا راقصة، تلتف وتصفر كأنها تحتفل بالحرب القادمة.


ظهر الحُرّاس من بين الجدران الممزقة للممر، أجسادهم مغطاة بدرع من عظام رمادية، وعيونهم مشتعلة بلون الليل. لم يكونوا فقط حرّاس الممرات، بل هم من بقايا عهدٍ قديم، من زمن كانت فيه أبواب العوالم تُغلق بالدم، وتُفتح بالدم.


أطلق خاطر صيحة لم يُسمع مثلها في تلك الأرض منذ قرون، صيحة لم تكن مجرد صوت، بل وعدًا.

"كل من يقترب منها… لن يعود!"


وانقض.


كانت ضرباته نصلًا ينهال على العدم، ثم يخلق المعنى.

كل ضربة من رمحه، كل لفة من جسده، كانت ترسم نارًا في الهواء. طعن أول حارس فاشتعل جسده من الداخل، وارتد الآخرون، قبل أن يهجموا دفعة واحدة.


لكن الحرب لم تكن لصالحه.


في لحظة خاطفة، انفجرت الأرض خلفه، وتسللت أذرع من الضباب، طوقت زافيرا التي كانت تحاول الهرب مع ليارا. التفتت زافيرا، صرخت باسمه، لكنها لم تكمل.


كان الوقت أبطأ من المعتاد.

رأى كيف شدّ أحد الجنود ذراعها بقوة، وسحبها نحو الظل.

رأى ليارا، تُنتزع من بين ذراعيها، ووجهها الصغير يتلوى من الرعب.

سمعها تصرخ: "باباااا!!"


لكنه لم يستطع الوصول.

الضباب صدّه.

والجنود التفوا حوله كأطواق من لعنة.


هوى على ركبتيه، رمحه سقط من يده، والدم يقطر من كتفه وفخذه.


وقف الحارس الأكبر أمامه، بصوت كالصخر قال:


"خسرت. المفتاح ليس لك. والباب لم يُفتح لك… بل فُتح علينا."

تعليقات
تطبيق روايات
حمل تطبيق روايات من هنا



×