رواية راما الفصل الثاني والثلاثون 32 بقلم اسماعيل موسي


 رواية راما الفصل الثاني والثلاثون 32 بقلم اسماعيل موسي


#راما__    _٣٢


راقبت جين المشهد أمامها بصمت، كأنها مجرد زائرة عابرة في حياة لم تعد تنتمي إليها.


آدم كان غارقًا في راما وطفلهما، يهرع إليها مع كل أنة تتصنعها، يمسك يدها بحنان، يهمس لها بكلمات المواساة.


وراما، بوجهها الشاحب المصطنع، تنظر إلى جين من طرف عينها، وكأنها تقول: انظري، لقد فزت.


جين لم تتحرك من مكانها، لم تنطق، لم تحاول حتى أن تفرض نفسها على اللحظة.


لم يعد ذلك يهم.


كان يكفيها أن ترى آدم سعيدًا، ولو كان ذلك يعني أنها أصبحت مجرد ظل في حياته.


لكن رغم كل شيء، لم تستطع منع الألم الذي تسلل إلى قلبها، رغم كل محاولاتها لإقناع نفسها أنها لم تعد تبالي.


حلمها القديم، أمنيتها التي دفنتها لسنوات، طفل يحمل ملامح آدم… كان الآن بين يدي امرأة أخرى.


شعرت بجسدها يبرد، ليس من الحسد أو الغيرة، بل من الإحساس القاسي بأنها لم تكن يومًا جزءًا حقيقيًا من هذا المستقبل.


ربما لم يكن مقدرًا لها أن تكون.







آدم لم يعد يلتفت إليها، كان منشغلًا تمامًا براما وطفلهما، كأن جين لم تعد سوى ضيف غير مرحب به.


لم تلتئم جراحها بعد، ولم تستعد قوتها بالكامل، لكن شيئًا ما في داخلها دفعها للحضور. ربما كان الأمل الأخير أن تجد في عيني آدم اهتمامًا، أن يلحظ شحوبها، أن يسأل ولو لمرة واحدة: "هل أنتِ بخير يا جين؟"


لكن لا، لم يسأل.


كان مشغولًا تمامًا، غارقًا في فرحة طفله، في كلمات راما الناعسة، في الدور الذي تبنّاه بكامل كيانه: الأب الحامي، الزوج المتفاني.


أما جين؟


كانت مجرد طيف عابر في تلك الغرفة.


كلما زادت حدة الألم في بطنها، وضعت يدها عليه برفق، كأنها تحاول تهدئته، إخفاءه. ليس فقط الألم الجسدي، بل ذلك الألم الآخر، العميق، الذي لم يكن هناك دواء له.


للحظة، كادت تنطق. كادت تخبره.


"آدم، لقد حدث شيء لم يتوقعه أحد. الأطباء قالوا لي ذات يوم إنني لن أتمكن من الحمل، لكن بعد الجراحة… الأمور تغيرت. أنا… أنا أستطيع الآن. أنا أيضًا قد أحمل طفلك، آدم."


لكنها لم تستطع.


ترددت الكلمات في حلقها، ثم تلاشت تمامًا عندما رأت نظراته المليئة بالحب وهو يراقب راما تحتضن الطفل.


كيف يمكنها أن تبوح بشيء كهذا؟ هل كانت تتوقع منه أن يلتفت إليها، أن يشعر بشيء تجاه هذا الخبر؟ أم كانت فقط تتشبث بوهم قديم؟


الواقع كان أوضح من أي وقت مضى:


آدم لم يعد لها.


كانت قد حلمت بأن يشاركها هذا الحمل يومًا ما، أن يكون بجانبها، أن يطمئنها عندما تخاف، أن يمسح على جبينها عندما يؤلمها شيء… لكنها رأت الآن الحقيقة جلية أمامها:


لو أخبرته، لن يهمه الأمر.


ولو شعر بشيء، فسيكون شيئًا شبيهًا بالشفقة.


وجين لم تعد تحتمل الشفقة.


عندما تحججت راما بالألم وأبعدت الطفل عنها، شعرت وكأن قلبها قد ضُغط بين يدي شخص ما بلا رحمة.


حاولت أن تبتسم، أن تتظاهر بأن الأمر لا يعنيها، لكنها شعرت بجرحها ينبض، كأنه يذكرها:


"أنتِ لستِ قوية كما تحاولين أن تظهري، جين. أنتِ تتألمين."


حاولت تغيير وضع جلوسها حتى لا تفضح ارتجافة جسدها، لكن لا شيء كان يساعدها. الألم ازداد، عيناها امتلأتا بالدموع، لكنها أبت أن تسقطها.


التفتت إلى آدم، عله ينظر إليها، يلاحظ ارتجاف أنفاسها، شحوب وجهها، يدها التي كانت تمسك ببطنها دون وعي.


لكنه لم يفعل.


لم يكن هناك.


آدم، الذي كان يومًا كل عالمها، لم يعد يراها حتى.


عندها فقط، فهمت.


أخذت نفسًا عميقًا، وحاولت تثبيت صوتها، ثم همست:


— "أنا سعيدة من أجلك، آدم."


لكنها كانت تكذب.


عندما يتخلى عنك أكثر شخص تحبه، لا يكون الأمر مجرد حزن عابر أو جرح يمكن مداواته ببعض الوقت.

لا، إنه أشبه بانهيار عالمك بالكامل، كأنك كنت تسير على أرض صلبة وفجأة تدرك أنها لم تكن سوى سراب، وأنك الآن تسقط… ولا أحد هناك ليمسك بك.


الألم لا يكون صراخًا، بل صمتًا مطبقًا.

 إنه الجلوس لساعات طويلة دون أن تدرك كيف مرّ الوقت. إنه أن تمسك هاتفك عشرات المرات ثم تعيده دون أن تفكر حتى في الاتصال، لأنك تعلم أن الشخص الذي كنت تنتظر منه أن يسأل… لن يسأل.


 أن تمشي في الشوارع التي كنتما تمشيان فيها معًا، فتبدو مألوفة لكنها غريبة في الوقت نفسه، كأنها فقدت لونها.

 أن تجلس في مقهى كنتما تزورانه، وتكتشف أن الكرسي المقابل لك بارد وخاوٍ، تمامًا كما تشعر من الداخل.


 أن تستيقظ في منتصف الليل دون سبب، قلبك يضرب بشدة وكأنك كنت تحلم بكابوس… ثم تدرك أن الكابوس ليس في المنام، بل في الواقع. وأن هذا الواقع هو أنك وحدك الآن، ولن يعود أحد ليطمئن عليك.


أن تحاول أن تملأ الفراغ، بالعمل، بالأصدقاء، بأي شيء… لكن كل شيء يبدو ضجيجًا لا معنى له.

 لأن الفراغ الحقيقي ليس في يومك، بل في داخلك، حيث كان يسكن هذا الشخص.


وهناك لحظة معينة، قاسية أكثر من كل ما سبق، عندما تستوعب أخيرًا أنه لا يشعر بما تشعر به.

أن الأمر لا يعنيه كما يعنيك.

أن قلبه لا ينزف كما ينزف قلبك.


أنك كنت شيئًا مهمًا في يومٍ ما، والآن أصبحت مجرد ذكرى قد لا يلتفت إليها أبدًا.


وجين، وهي جالسة هناك، تراقب آدم الذي لم يلاحظ حتى شحوبها أو ألمها، شعرت بهذا كله. ليس دفعة واحدة، بل كأن ألف خنجر صغير يغوص في صدرها ببطء.


لقد أحبته بكل ما فيها.


وكان مستعدًا لنسيانها بكل بساطة.


نهضت جين ببطء من مقعدها، وكأن وزن العالم كله يرزح على كتفيها.

 شعرت بوهن في ساقيها، كأن قوة غير مرئية كانت تحاول إبقائها هناك، تُجبرها على البقاء شاهدة على سعادته التي لم تكن جزءًا منها.

لكن ما الجدوى؟ لم يعد هناك شيء تربطه بها، لم يعد هناك شيء يبقيها هنا.


خطت خطوة، شعرت بوخز في مكان الجراحة، ألم خفيف لكنه مستمر، تمامًا كالحزن الذي استوطنها.

ضغطت يدها على موضع الألم، وكأنها تحاول أن تسيطر عليه، أن تخفيه كما اعتادت دائمًا.


تحركت ببطء، خطواتها مترددة، وكأنها تتوقع أن يستوقفها، أن ينطق باسمها، أن يلاحظ حتى أنها على وشك السقوط. لكنها لم تسمع شيئًا سوى صوت راما، تهمس له بشيء، ثم ضحكته الخافتة.


عند الباب، توقفت للحظة، التفتت لتلقي نظرة أخيرة.


آدم كان هناك، يحمل طفله، يبتسم لرُاما، وجهه يشع بسعادة خالصة، سعادة لم تكن جين جزءًا منها.


لم يكن ينظر إليها. لم يكن يشعر حتى أنها واقفة هناك.


أخذت نفسًا مرتجفًا، شعرت أن قلبها يضيق في صدرها، أن الألم في موضع الجراحة لم يكن شيئًا مقارنةً بما تشعر به الآن.


ثم استدارت… ورحلت.







ترنحت خطواتها وهي تسير في الممر الطويل للمستشفى، الجدران البيضاء بدت باهتة، الأضواء فوقها تتراقص أمام عينيها، تداخلت الأصوات من حولها لكنها لم تكن تسمع شيئًا بوضوح.


عندما وصلت إلى الباب الخارجي، كان الهواء البارد ينتظرها، لفح وجهها كأنه يريد أن يوقظها من هذا الكابوس. لكنها كانت مستيقظة تمامًا. مستيقظة على الحقيقة الوحيدة التي لا يمكن إنكارها بعد الآن:


آدم لم يعد لها.


فتحت جين باب شقتها بخطوات متعثرة، وكأنها عبرت صحراء كاملة قبل أن تصل إلى هنا.

كانت الشقة مظلمة وباردة، تمامًا مثل قلبها.

 لم تكلف نفسها عناء إضاءة الأنوار، بل دفعت الباب بضعف خلفها، ثم استندت عليه للحظة، تستجمع أنفاسها.


لكن الألم لم يمهلها.


هاجمها فجأة، كخنجر مغروس في أحشائها، التوت ملامحها، شهقت وهي تضع يدها على بطنها حيث كان الجرح نابضًا، كأن شيئًا بداخله يحترق.

 الهواء حولها أصبح ثقيلًا، جسدها لم يعد يقوى على حملها، شعرت بدوار يجتاح رأسها.


حاولت التقدم، لكن قدميها خانتاها، فسقطت على الأرضية الباردة.


شهقت، ليس فقط بسبب الألم الجسدي، بل لأن مشاعرها كلها انفجرت دفعة واحدة.


لقد عاد وحده. لم يسأل عنها. لم يلحظ حتى وجودها.


عقلها يعيد المشهد مرارًا—آدم يحمل طفله، ينظر إلى راما بحب، يتجاهلها وكأنها لم تكن هناك أبدًا.


ضغطت أصابعها على صدرها، وكأنها تحاول إيقاف الانفجار الذي يحدث داخله، لكن لا شيء يمكنه إيقاف هذا النزيف الداخلي.


كانت محطمة. مدهوسة. محترقة حتى الرماد.


ارتجف جسدها، ليس فقط من الألم، بل من الوحدة القاتلة التي أحاطت بها. كم كانت سخيفة عندما فكرت للحظة أن تخبره، أن تشاركه السر، أن تبحث عن دفء منه، عن اهتمام منه.


هو لم يهتم بها وهي تكافح الموت، فكيف سيهتم الآن؟


شهقت شهقة أخرى، هذه المرة خرجت كأنها اعتراف مؤلم:


— "أنا وحدي… دائمًا وحدي."


وبقيت هناك، على الأرض الباردة، تتألم بصمت، كما اعتادت دائمًا.

            

            الفصل الثالث والثلاثون من هنا 

لمتابعة باقي الرواية زوروا قناتنا على التليجرام من هنا

تعليقات
تطبيق روايات
حمل تطبيق روايات من هنا



×