رواية راما الفصل السابع والعشرون 27 بقلم اسماعيل موسي
#راما
راما - ٢٧
في اليوم التالي، استيقظت جين قبل آدم، لم تتحرك من مكانها مباشرة، فقط ظلت مستلقية للحظات، تنظر إلى السقف، تسمع أنفاسه الهادئة بجانبها.
كانت الليلة الماضية غريبة، ليس بسبب آدم فقط، بل بسببها هي. كيف انتهى بها الأمر إلى السماح له بالبقاء؟ كيف وجدت نفسها تصدقه؟
نهضت بهدوء، سحبت البطانية فوقه قبل أن تتجه إلى الحمام. فتحت الماء البارد، تركته يتدفق بين يديها للحظات قبل أن تغسل وجهها. نظرت إلى انعكاسها في المرآة، عيناها لم تكونا متعبتين كعادتهما، لكن هناك شيء آخر فيها، شيء لم تستطع تحديده بعد.
عندما خرجت، كان آدم قد استيقظ، جالسًا على حافة السرير، ينظر إليها بصمت.
"صباح الخير." قال بصوت منخفض.
لم ترد فورًا، فقط وقفت هناك، ثم قالت أخيرًا: "صباح النور."
كان هناك شيء غريب في الجو بينهما، ليس توترًا، بل إدراكًا لحقيقة أن هذه اللحظة قد تكون نقطة تحول، للأفضل أو للأسوأ.
آدم وقف، مشى نحوها لكنه لم يلمسها، فقط وقف أمامها وقال: "أنا مش هضغط عليكي في حاجة، جين. بس عايزك تعرفي إن أنا مش هتخلى عنك، هنفضل سوا مهما كانت العقبات
جين أومأت، لم تجبه، فقط التقطت حقيبتها واتجهت إلى الباب.
"هترجعي إمتى؟" سألها.
لا أعرف
لم تكن تعرف فى الحقيقه متى ستعود، كان عقلها مشوش جدا
وتشعر بثقل على صدرها
ثم خرجت.
★★
في المطبخ، كانت راما قد استيقظت بالفعل، جالسة تحتسي قهوتها، قدماها ممدودتان بكسل على الطاولة، نظرت إلى جين بنظرة طويلة، ثم قالت بنبرة ساخره "العروسة خارجة بدري النهارده."
لم تتوقف جين، لم ترد، لكنها سمعت راما تضيف بسخرية: "أتمنى تكوني فاهمة إن آدم ملكى
جين توقفت للحظة عند الباب، لم تلتفت، لكنها قالت بصوت ثابت: "لو كانت ملكك مش عايزاه
ثم خرجت، وأغلقت الباب خلفها.
★★
الهواء في الخارج كان باردًا، لكنه منعش، جين مشت في الشارع بخطوات ثابتة، حقيبتها على كتفها، عقلها مشغول بأشياء كثيرة، لكن الأهم كان فكرة واحدة:
هي لم تعد تنتظر. لا أحد سينقذها. هذه حياتها، وعليها أن تعيشها بشروطها.
******************
كان المكتب بسيطًا، بلا فخامة زائدة، مجرد مساحة عملية مليئة بالمكاتب والملفات وصوت لوحات المفاتيح وهي تُطرق بوتيرة ثابتة.
عندما جلست جين خلف مكتبها، أخذت نفسًا عميقًا، حاولت استيعاب حقيقة أنها هنا الآن، في وظيفة، في مكان لا يعرفها فيه أحد، حيث لا أحد يراها كزوجة آدم أو منافسة راما،هنا، كانت جين فقط، مجرد موظفة جديدة في شركة لا تهتم بماضيها.
لكن حتى هذه الفكرة لم تمنحها الراحة،كان هناك شيء ثقيل داخلها، شعور بأنها غريبة، كأنها تحاول الانتماء إلى عالم لا يعرفها ولا يعنيه وجودها.
مرّ اليوم الأول ببطء، وجدت نفسها تراقب زملاءها من بعيد، تحاول فهم الطريقة التي يتفاعلون بها، كيف يتحدثون عن العمل، كيف يضحكون بين المهام، كيف يشعرون بالراحة في هذا المكان، وكأنهم ينتمون إليه حقًا.
أما هي؟ كانت تجلس هناك، تؤدي مهامها بصمت، تحاول التركيز، لكنها كانت تشعر وكأنها تؤدي مشهدًا في مسرحية لا تفهم نصها.
★★
في المساء، جلست في المقهى القريب من الشركة، كوب القهوة أمامها، عيناها تحدقان في الشارع من خلف الزجاج.
لماذا لم تشعر بشيء؟
لطالما فكرت أن العمل سيكون بداية جديدة، خطوة نحو استقلالها، نحو شيء يشبه الحرية. لكنها الآن تشعر بأنها هاربة، لا حرة.
العمل لم يملأ الفراغ بداخلها، لم يمنحها القوة التي كانت تبحث عنها. فقط جعلها تدرك كم كانت بعيدة عن نفسها.
لم يكن الهروب من آدم أو راما هو الحل، المشكلة لم تكن فيهم فقط، المشكلة كانت في الداخل، حيث يقبع شعور عميق بعدم الاكتفاء، بعدم الانتماء، بعدم اليقين.
مدت يدها إلى هاتفها، ضغطت على اسمه دون تفكير.
رن الهاتف مرتين، ثم جاءها صوته، هادئًا، دافئًا.
"جين؟"
لم تقل شيئًا، فقط أغلقت المكالمة بسرعة، وضعت الهاتف جانبًا، وأغمضت عينيها.
هي ليست مستعدة بعد.
لكنها عرفت شيئًا واحدًا.
هي لا تريد العودة إلى ما كانت عليه.
*********
لم تذهب جين إلى المنزل مباشرة بعد إنهاء عملها، اختارت أن تسير بلا هدف في الشوارع، تطالع الأرصفة المبتلة ببقايا المطر، تمرر أصابعها على الحواف الباردة للمقاعد العامة، تشاهد الغرباء وهم يعبرون حياتها للحظات ثم يختفون.
كان هناك شيء مطمئن في فكرة أنهم لا يعرفونها، أنهم لن يتذكروا وجهها غدًا.
لكنها، رغم ذلك، لم تستطع التوقف عن التفكير فيما ينتظرها في المنزل.
★★
عندما وصلت أخيرًا، كان الليل قد حلّ، الأضواء في الشقة كانت خافتة. دخلت دون أن تصدر صوتًا، خلعت حذاءها بحذر، لكنها لم تكن بحاجة إلى التسلل—لم يكن أحد يهتم.
في المطبخ، وجدت آدم واقفًا، ممسكًا بكوب قهوته، ينظر عبر النافذة، لكنه التفت فور أن شعر بها.
"اتأخرتِ." لم يكن صوته يحمل عتابًا، مجرد ملاحظة أخرى، كما اعتاد أن يكون.
"كنت بحاجة للمشي."
أومأ آدم، ثم نظر إليها طويلًا، وكأنه يريد قول شيء لكنه تراجع.
وقفت جين على الجانب الآخر من الطاولة، أدارت كوبها بين يديها، ثم قالت أخيرًا:
"مش عارفة أنا بعمل إيه."
رفع آدم حاجبه قليلًا. "في الشغل؟"
هزت رأسها. "في كل حاجة."
كان من المفترض أن تكون هذه بداية جديدة، لكنها لم تشعر بأنها جديدة على الإطلاق. كل شيء بداخلها كان متشابكًا، مجروحًا، مرتبكًا.
"لسه بتحسي إنك تايهة؟" سأل بصوت منخفض.
لم ترد فورًا، فقط رفعت عينيها إليه، بحثت عن أي شيء في ملامحه قد يدل على أنه يفهم.
"أنا بس مش عايزة أحس إني عايشة في انتظار حاجة مش هتحصل."
"إيه الحاجة دي؟"
لم يكن لديها إجابة واضحة، لكنها شعرت أن آدم، لأول مرة منذ وقت طويل، يستمع حقًا.
"مش عارفة، بس مش عايزة أفضل كده."
ظل آدم صامتًا للحظة، ثم قال بهدوء:
"مش لازم تفضلي كده."
لم يكن هذا وعدًا، لم يكن حلًا، لكنه كان اعترافًا بأن الأمر ممكن، أن التغيير ليس مستحيلًا، لكنه يحتاج إلى قرار، إلى خطوة أخرى، وربما إلى شخص لا يزال يؤمن بها، حتى عندما لا تستطيع هي أن تؤمن بنفسها.
جين لم تقل شيئًا، فقط ارتشفت قهوتها، وتركت الحرارة تنساب في داخلها، تدفئ شيئًا ظنّت أنه مات منذ زمن.
****
داخل غرفتها، جلست جين على طرف السرير، تتأمل حقيبتها المفتوحة على الأرض. كانت الملابس مطوية بعناية، لكنها لم تضع شيئًا بعد.
كان قرارها واضحًا، لكنها لم تتحرك بعد.
رفعت يديها إلى وجهها، مررت أصابعها على ملامحها وكأنها تحاول التعرّف على نفسها مجددًا. هل هذا هو الحل؟ الرحيل؟ ترك كل شيء وراءها؟
أم أنها تهرب؟
شعرت بداخلها بصراع غير مرئي، كما لو أن شخصين يتجادلان بصمت داخل عقلها. جزء منها كان يخبرها أن الرحيل هو السبيل الوحيد لتكون نفسها، أن تبني حياة تستحقها بعيدًا عن هذه الفوضى. والجزء الآخر كان يهمس: "وأين ستذهبين؟"
أغمضت عينيها للحظة، وتذكرت اللحظة التي دخلت فيها هذه الشقة لأول مرة. كيف كانت تشعر؟ هل كانت تظن أنها ستجد الأمان هنا؟ أم كانت فقط تتشبث بما تبقى من حياة لم تعد تعرفها؟
نظرت إلى الحقيبة مرة أخرى.
هذه المرة، نهضت، فتحت الخزانة، وبدأت بوضع الأشياء بداخلها. لم تتوقف هذه المرة.
لم يكن هناك شيء درامي في قرارها. لم يكن هناك انهيار أو لحظة كشف مذهلة.
فقط الاستمرار.
عندما أغلقت الحقيبة، عرفت أن الأمر انتهى.
الليلة ستكون الأخيرة لها هنا.