رواية فراشة المقبرة الفصل السادس عشر 16 بقلم اسماعيل موسي
#فراشة_المقبرة
١٦
حين طلب الدكتور نادر من زهرة إجراء بعض التجارب، لم يظهر عليها أي تردد. كانت معتادة على العمل في المختبر، وعلى التعامل مع العيّنات البيولوجية بأقصى درجات الدقة. لكنها لم تكن تتوقع أن يُلاحظ ما حاولت إخفاءه لسنوات.
كانت يدها اليمنى تحمل آثار حروق قديمة، ندوب ممتدة على ظاهر الكف وأطراف الأصابع، كما لو أنها تعرضت لنيران لم تترك منها سوى خطوط غير منتظمة، كأن الجلد قد أُعيد تشكيله بطريقة غير مكتملة. لطالما حرصت على إخفائها، إما بارتداء قفازات رقيقة في المختبر، أو بتحريك يدها بطريقة تقلل من ظهورها.
لكن في تلك اللحظة، حين مدت يدها لالتقاط المشرط الدقيق، وقفت تحت إضاءة المختبر القوية، لم تكن هناك ظلال كافية لتخبئها.
لاحظ الدكتور نادر ذلك في اللحظة التي رفعت فيها يدها لتثبيت شريحة نسيج تحت المجهر. لم يعلق مباشرة، لكن عينيه توقفتا للحظات على الندوب، وكأنه كان يحاول فهم القصة وراءها. لم يكن الأمر فضولًا عابرًا، بل نظرة تحليلية، نظرة طبيب يبحث عن سبب تشوه غير طبيعي.
— "هذه الحروق... متى حدثت؟" سأل بصوت هادئ، غير مستفز، لكنه أيضًا لم يكن يحمل تعاطفًا زائفًا.
توقفت زهرة للحظة، ثم أكملت عملها كما لو أنها لم تسمع السؤال. وضعت الشريحة الزجاجية في مكانها، وضبطت عدسة المجهر، وتحدثت بنبرة محايدة:
— "منذ وقت طويل."
لم يكن هذا جوابًا شافيًا، لكنها لم تكن تنوي إعطاء المزيد من التفاصيل. كان الماضي جزءًا من معادلتها الشخصية، شيء لا يدخل ضمن حدود ما تسمح للآخرين بمعرفته.
لكن الدكتور نادر لم يكن شخصًا يتجاهل ما يثير اهتمامه. وبينما كانت زهرة تركز على المجهر، كان هو يركز على يدها.
— "النسيج متضرر بعمق، ليس مجرد حروق سطحية. هل أجريت عمليات ترقيع جلدية؟"
رفعت زهرة عينيها عن العدسة، ونظرت إليه مباشرة. كان من الواضح أنه يحلل يدها كما يحلل عينة تحت المجهر، وكأنه يحاول رسم صورة لما حدث بناءً على الآثار المتبقية.
— "بعض الإجراءات البسيطة." أجابت باقتضاب.
لكنه لم يكتفِ بذلك.
— "هل فقدت أي إحساس في أطراف الأصابع؟" سأل، وعيناه تتحركان بين يدها والشرائح التي كانت تعمل عليها.
لم يكن سؤالًا عبثيًا. كان يعلم أن الحروق العميقة قد تؤدي إلى تلف النهايات العصبية، مما يعني أن الإحساس في بعض الأجزاء قد يكون مشوشًا أو مفقودًا تمامًا.
لم تجبه هذه المرة، لكنها وضعت المشرط على الطاولة وأدارت يدها ببطء، كما لو كانت تراقبها بنفسها. كان هناك جزء صغير عند قاعدة الإبهام بالكاد تشعر به، بقعة ميتة وسط جلد ما زال يحمل ذاكرة الألم.
لاحظ الدكتور نادر صمتها، لكنه لم يضغط عليها. بدلاً من ذلك، أشار إلى البحث الذي كانت تعمل عليه.
— "أبحاثي عن إعادة تنشيط الأنسجة الميتة ليست مجرد نظرية. هناك إمكانية لاستعادة بعض الوظائف في الخلايا العصبية المتضررة، حتى لو كانت الحروق قديمة."
رفعت زهرة حاجبًا باهت الاهتمام، لكنها لم تعلق.
— "أعتقد أنكِ تعرفين ذلك بالفعل." أضاف، وكأن الفكرة كانت بديهية.
لم تجب مباشرة، لكنها التقطت المشرط مرة أخرى وبدأت بقطع شريحة جديدة بدقة.
— "الأبحاث وحدها لا تكفي." قالت بصوت هادئ، بينما كانت تتعامل مع العينة أمامها. "النظريات جميلة، لكن تطبيقها هو ما يحدد قيمتها."
ابتسم الدكتور نادر، لكنه لم يكن ابتسامة استهزاء، بل شيء أقرب إلى التقدير الخفي.
— "ولهذا السبب أريدكِ أن تعملي على هذا المشروع معي."
لم ترفع رأسها، لكن أصابعها توقفت للحظة عن الحركة، ثم تابعت عملها كما لو أن كلماته لم تؤثر عليها.
لكنه لاحظ ذلك التوقف القصير، ذلك التردد الذي لم يكن معتادًا منها.
ظل الدكتور نادر يراقبها وهي تعالج الشريحة الجديدة، وكأنه يختبر مدى تقبلها لفكرته دون أن يضغط عليها مباشرة. لكنه لم يكن من النوع الذي يترك الأمور للصدف.
— "لستُ أتحدث عن بحث نظري فقط، زهرة." قال بصوت هادئ، لكنه كان يحمل شيئًا من الجدية. "لقد طورت تقنية يمكنها إعادة بناء الأنسجة المتضررة، ليس فقط على المستوى السطحي، بل على مستوى الخلايا العصبية والروابط التي فقدتها بسبب الحروق."
لم تتوقف زهرة عن عملها، لكنها شعرت بثقل كلماته.
تابع، وهو يراقب تعبيرها:
— "أعرف أن هذه الحروق ليست الإصابة الوحيدة التي تحملينها."
رفعت رأسها فجأة، والتقت عيناه مباشرة. كان في نظرته شيء من التحليل البارد، لكنه لم يكن خالٍ من الاهتمام.
— "جسمكِ يحمل آثارًا أخرى، أليس كذلك؟" أضاف بصوت منخفض، لكنه كان كافيًا لإحداث زلزال داخلها.
قبضت زهرة يدها فوق الطاولة، حيث لا يستطيع رؤيتها. شعرت كأنها مكشوفة تمامًا، كأن المعطف الذي ترتديه لم يعد كافيًا ليخفي ما لا تريد أن يراه أحد.
— "هذا ليس من شأنك."
قالتها بهدوء، لكنه كان هدوءًا مشوبًا بالغضب.
لكنه لم يتراجع.
— "بل هو من شأني، إن كنتِ مستعدة لتقبل العلاج."
رفعت حاجبًا بسخرية، وكأنها سمعت مزحة ثقيلة.
— "علاج؟" كررت الكلمة كأنها لا تصدقها. "هل تظن أنني أريد أن أكون جزءًا من إحدى تجاربك؟"
— "لستُ أعرض عليكِ أن تكوني تجربة، بل نتيجة." قال بثقة. "لقد وصلت إلى مرحلة متقدمة من البحث، وما يمكنني فعله الآن يتجاوز كل ما تتوقعينه."
صمت للحظة، ثم أضاف بنبرة أخف:
— "أنا لا أعد بالمستحيل، لكن يمكنني أن أعيد إليكِ بعض ما فقدتِه."
الدماء كانت تغلي في عروقها الآن. كان يتحدث عن جسدها وكأنه مشروع إصلاح، كأنه يرسم خريطة للأماكن التي يجب تعديلها وإعادة بنائها. لم يكن ينظر إليها كإنسانة، بل كحالة طبية، كفرصة لإثبات نجاح نظرياته.
دفعت الأدوات أمامها بعنف كافٍ ليصدر صوت ارتطام خفيف، ثم وقفت بسرعة.
— "لستُ بحاجة إلى إصلاح!"
كان صوتها مرتفعًا بما يكفي لجعل الصمت الذي تلاه أكثر ثقلاً.
تبادل كلاهما النظرات، هو بعقلانية جافة، وهي بعاصفة من الغضب المكبوت.
ثم استدارت دون كلمة أخرى، والتقطت معطفها من على الكرسي، وخرجت من المختبر بخطوات سريعة، دون أن تنظر خلفها.
ظل الدكتور نادر في مكانه، يراقب الباب الذي أغلقته وراءها
حتى اختفت زهرة تماما
غادرت الجامعه وهى تحمل غضب عميق
غضب كفيل بقتل كل من قد يعترض طريقها
عندما وصلت إلى البيت اغلقت زهرة غرفتها على نفسها
ثم تحول الغضب داخلها لشيء اخر
إلى فكره، او ربما حلم، وعندما نظرت إلى يدها أطلقت ابتسامه مقتضبه