رواية فراشة المقبرة الفصل الواحد والعشرون 21 بقلم اسماعيل موسي


 رواية فراشة المقبرة الفصل الواحد والعشرون 21 بقلم اسماعيل موسي


#فراشة_المقبرة


٢١


عندما دخلت زهرة إلى غرفة الكشف، توقفت أنفاسها لوهلة.


كان الرجل ممددًا على الطاولة الخشبية القديمة، التي لطالما جلست عليها الأمهات بأطفالهن والرجال بأوجاعهم المزمنة، لكنه هذه المرة لم يكن مريضًا ينتظر تشخيصًا.

كان جسده مغطى بالدم، صدره يرتفع وينخفض بصعوبة، كأنه يحاول التشبث بآخر أنفاسه.


وضعت يدها على موضع النزيف في بطنه، حيث انغرس جرح عميق، ربما سكين، ربما شفرة حادة، الدم كان يتسرب من بين أصابعها، ساخنًا، لزجًا، ينذر بنهاية لا مفر منها.


— "من فعل هذا؟" صاحت، وهي تضغط بيدها بقوة، تحاول وقف النزيف، رغم أنها كانت تعلم أن الأمر قد فات أوانه.


لكن لم يجبها أحد، التمرجي واقف عند الباب، جسده متوتر، عيناه تتحركان بقلق بين الرجل المحتضر والطبيبة التي تحاول إنقاذ ما لا يمكن إنقاذه.


فتح الرجل المصاب عينيه بصعوبة، نظر إلى زهرة كأنها آخر شيء سيراه في هذه الدنيا  حاول أن يتحدث، شفتاه ارتجفتا دون أن تخرج الكلمات، ثم أخيرًا، همس بصوت خافت، متقطع:


— "أولادي... يا دكتورة... خلّي بالك منهم..."


شعرت زهرة بجسده يرتجف بين يديها، أنفاسه تتباطأ، عينيه تغيم،كانت قد رأت الموت من قبل، في المستشفيات الكبيرة حيث كانت تتدرب، لكنها لم تره بهذه القسوة، في غرفة ضيقة، على طاولة قذرة، لرجل لم يُسمح له حتى بأن يمرض في سلام.


ثم، في لحظة، سكن جسده تمامًا.


أبعدت يديها ببطء، أناملها ملطخة بالدم الذي بدأ يبرد حدّقت في وجهه للحظة، كأنها لا تصدق أنه مات بهذه السرعة، بهذه السهولة، كأن الحياة نفسها كانت تنتظر لحظة ضعفه لتنتزعه دون رحمة.


استدارت بحدة نحو التمرجي:


— "اتصلوا بالشرطة فورًا!"


لكن التمرجي لم يتحرك  فقط خفض رأسه، ولم ينبس بكلمة.


— "قلت اتصلوا بالشرطة!" صرخت، والغضب والذهول يتشابكان في صوتها.


رفع التمرجي عينيه ببطء، نظر إليها كأنه يراها لأول مرة، ثم قال بصوت خفيض:


— "مفيش حد هيبلغ، يا دكتورة."


حدّقت فيه، غير مستوعبة.


— "إيه؟!"


أخذ خطوة للوراء، كأنه يهرب من نظراتها.


— "إحنا هنا... مفيش حاجة اسمها شرطة، مفيش حد بيشتكى


شعرت بقشعريرة باردة تزحف على جسدها، كما لو أن يدًا خفية أحكمت قبضتها على عنقها، نظرت إلى الرجل الميت، ثم إلى التمرجي، ثم إلى الباب الذي بدأ الناس يقفون عنده، يراقبون بصمت، وجوههم خاوية من أي تعبير.


— "يعني إيه؟!" سألت بصوت مرتجف، رغم محاولتها للتماسك.


جاءها الرد من أحد الرجال الواقفين عند الباب، بنبرة هادئة، كأنما يشرح أمرًا بديهيًا:


— "يعني مفيش جريمة حصلت، يا دكتورة."


ابتلعت ريقها.


— "بس الراجل مات قدامي...!"


— "محدش شاف حاجة."


— "لكن—"


قاطعتها امرأة عجوز بصوت متعب:


— "سيبيه في حاله يا دكتورة... وكمّلي شغلك."







شعرت زهرة وكأنها علقت في كابوس، كأنها في عالم موازٍ، حيث الجريمة تُمحى بمجرد أن يرفض الجميع الاعتراف بها. نظرت مرة أخرى إلى الجثة، ثم إلى العيون المتفرجة، وبدأت تدرك الحقيقة.


هنا، الموت ليس مجرد نهاية. الموت هنا رسالة.


جاء الليل ومعه جاء الدفن.


لم تكن هناك جنازة كما يحدث في القرى الأخرى، لم تكن هناك زغاريد النساء الكبيرات وهن يودعن الميت، ولا صفوف الرجال تتقدم في صمت مهيب خلف الجثمان، لم يكن هناك سوى صمت ثقيل، كأنه الغبار الذي يسبق العاصفة.


حُمل الجسد إلى المقبرة على عربة خشبية قديمة، تآكلت أطرافها من الزمن، يجرها حمار هزيل، عيناه معتمتان كأنه يدرك المصير البائس لمن يحمل.

لم يسر خلفه إلا رجلان فقط، أحدهما حفّار القبور العجوز، والآخر ابن عمه، الذي مشى برأس منخفض، وكأنه يخشى أن يراه أحد فيُحسب عليه أنه شارك في الجنازة.


لم يجرؤ أحد من رجال القرية على الحضور.


كانوا يعرفون أن مجرد الوقوف في الجنازة قد يكون بمثابة توقيع على حكم غير مكتوب، وقد تكون العواقب ثقيلة، أثقل من أن يتحملها أي رجل لديه بيت وأولاد.


لكن النساء كن هناك، على بعد خطوات من المقبرة، متشحات بالسواد، يراقبن في صمت، وبعضهن يخفي وجوههن خلف أطراف الأوشحة خوفًا من أن تُرصد دموعهن.


أما زوجته، فكانت مختلفة.


وقفت أمام بيته الطيني، حيث جلست طوال النهار تبكي دون توقف، حتى جفت دموعها وصار صوتها أجشًّا كصوت الرياح التي تهب قبل الشتاء. كانت ممسكة بطفليها الصغيرين، أحدهما لم يتجاوز الثالثة، والآخر رضيع يتشبث بثوبها وكأنه يشعر باليتم قبل أن يفهم معنى الموت.


— "مين هايربّيهم؟!" صاحت فجأة، بصوت كسر الصمت كأنه حجر ألقي في بئر عميقة.


لم يجبها أحد.


— "مين هايربّيهم؟!" صرخت مرة أخرى، ونظرت حولها، تبحث عن أي وجه يمكن أن يعطيها إجابة.


لكن الوجوه كانت مكسورة، مطأطأة، تتجنب النظر إليها.


اقتربت منها امرأة عجوز، وضعت يدها على كتفها في محاولة يائسة لتهدئتها، لكن الأم الشابة دفعت يدها بعيدًا، وصرخت:


— "جُوزي مات! قتلوه قدام عنيكو! وانتو واقفين ساكتين!"


أطبقت أناملها على كتفي طفلها الأكبر، الذي كان ينظر إلى القبور بعينين واسعتين، كأنه لا يفهم ما يحدث، لكنه يشعر أن شيئًا كبيرًا سُلب منه.


— "هتسيبوني لوحدي؟" سألت بصوت خافت، متوسل، كأنها تنتظر أن ينشق أحدهم عن صمته.


لكن الرد كان نفس الصمت نفس الخوف الذي جعل الرجال يختبئون في بيوتهم، والنساء يسرن بسرعة قبل أن يُسألن لماذا وقفن طويلًا.


وفي النهاية، حين انتهى الدفن، وانطفأت الفوانيس القليلة التي كانت تضيء الطريق إلى المقبرة، عادت الزوجة إلى بيتها، وحيدة.


أما القرية، فقد استمرت كأن شيئًا لم يكن. كأن الحياة لم تُنتزع من رجل كان يمشي بينهم قبل يوم واحد فقط كأن الموت هنا لا يُسجَّل، بل يُطوى في العتمة، مثل سر قديم لا يجرؤ أحد على نطقه.

          

          الفصل الثاني والعشرون من هنا 

لمتابعة باقي الرواية زوروا قناتنا على التليجرام من هنا   

تعليقات
تطبيق روايات
حمل تطبيق روايات من هنا



×