رواية صراع تحت القمر الفصل الخامس 5 بقلم اسماعيل موسي
صراع تحت القمر
5
مرَّت ليلتان على الاحتماء بالقصر، حيث بدا وكأنه جزيرة أمان وحيدة وسط بحر من الظلام والفوض،لكن مع حلول الليلة الثانية، اخترق السكون صوت غريب ومفزع، ينبعث من جهة الجبال البعيدة. كان الصوت أشبه بزوبعه، يحمل في طياته غضبًا دفينًا، وكأن الطبيعة نفسها تعلن عن كارثة وشيكة، ارتجفت جدران القصر للحظة، وأحسّ الثلاثة بثقل هذا الصوت يتردد في أعماقهم.
في الصباح، كان الغموض الذي لفّ الليل قد ترك أثره على عقولهم. قال أركان بصوت منخفض، وهو يراقب الأفق من نافذة القصر:
"علينا أن نعرف مصدر هذا الصوت،الجبال تخفي شيئًا...
ردّت برانتا، وهي تضع يدها على سيفها بحذر: "قد يكون خطرًا أكبر مما واجهناه، لكن البقاء هنا لن يعطينا إجابات."
وهكذا، انطلقوا نحو الجبال الشاهقة، التي كانت تلوح في الأفق ككتل رمادية متشابكة مع الغيوم الدانة، كان الهواء باردًا وقاسيًا، وكلما اقتربوا، ازداد شعورهم بأن شيئًا ما ينتظرهم.
عندما وصلوا إلى سفح جبل أزيخ، بدا المشهد مهيبًا بشكل يعجز عنه الوصف، الجبل نفسه كان كتلة ضخمة من الصخر الأزرق الداكن، تتخلله شقوق عميقة وكأن الزمان نفسه قد نحتها بعناية، تحت الجبل، كان نهر إمبيرتون يتلوى كأفعى عملاقة، مياهه الزرقاء تتلألأ تحت أشعة الشمس وكأنها تحمل سرًا غامضًا.
بينما كانوا يستكشفون المنطقة، انحنى أركان على الأرض، ليدقق في آثار أقدام كانت واضحة على الرمال الرطبة عند سفح الجبل. قلبه خفق بقوة عندما أدرك ما يراه.
"هذه آثار أقدام كيرا... أميرة الظلال مرت من هنا."
نظرت برانتا نحو الجبل، وقالت: "إذا كانت هنا، فهذا يعني أن الجبل يحوى شيء غامضآ
لكن أركان كان يعلم أن الأمر لم يكن بهذه البساطة، بين الصخور المتناثرة والشقوق العميقة، كان هناك دليل آخر، دليل بثّ في نفسه خليطًا من الرهبة والحماسة،رأى رموزًا محفورة على صخور الجبل، رموزًا قديمة تحمل إشارات إلى "كهف الرياح".
ثم لمع اسم مكتوب بحبر مخفى، الهنطاع، حارس كهف الريح
قال أركان بصوت جاد: "إذا كانت كيرا قد صعدت إلى هناك، فإما أن تكون قد عقدت اتفاقًا معه، أو..." صمت للحظة، قبل أن يكمل: "علينا أن نعرف ما الذي حدث. قد يكون هذا صوت المواجهة الذي سمعناه في الليل."
بدأت رحلتهم نحو القمة، وكل خطوة كانت تقربهم من الحقيقة، لكنها أيضًا تزيد من شعورهم بالخطر الذي يتربص بهم، الجبل لم يكن مجرد كتلة صخرية، بل بدا وكأنه كائن حي، يراقب كل حركة لهم، يزن كل أنفاسهم.
كان الطريق وعرًا وصعبًا، والرياح تعصف بهم من كل جانب، لكن شيئًا ما في أعماقهم دفعهم للاستمرار، كان نهر إمبيرتون يتلوى تحتهم، جميلًا لكنه يحمل رهبة لا توصف، وكأن مياهه الزرقاء العميقة تخفي أسرارًا أعمق مما يتخيلون.
ومع اقترابهم من القمة، كان إحساسهم بالخطر يتضاعف، صوت الرياح الذي كان يرافقهم تحول إلى همسات غريبة، وكأن الجبل نفسه يحذرهم من التقدم،لكنهم لم يتوقفو،كان لديهم هدف واحد: معرفة ما تخبئه الجبال، وما الدور الذي يلعبه الحارس الهنطاع في لعبة الظلال الكبرى.
بينما كان أركان وبرانتا ولوسيان يصعدون المنحدرات القاسية لجبل أزيخ، بدا الجبل وكأنه يزداد هيبة وغموضًا مع كل خطوة. الصخور الزرقاء العميقة تتوهج تحت ضوء الشمس الخافت، والرياح تعصف حولهم، وكأنها تهمس بأسرار قديمة، لكنهم، رغم الصعوبات، واصلوا التقدم.
ثم، فجأة، حدث شيء لم يكن في الحسبان،عندما اقتربوا من نقطة بدا فيها الجبل وكأنه يحتضن السماء، توقفوا بغتة،لا شيء أمامهم سوى الهواء، ولكن الهواء نفسه بدا وكأنه جدار غير مرئي.
مد أركان يده، فشعر وكأنه يلمس سطحًا باردًا وموجيًا، ينبض بحياة غامضة. "ما هذا؟" همس وهو يسحب يده بسرعة، وكأن الحاجز قد لسعه.
حاولت برانتا أن تخطو خطوة للأمام، لكن قدميها خانتاها، وسرعان ما شعرت بدوار رهيب. قالت بصوت مضطرب: "إنه ليس مجرد حاجز... إنه يعبث بعقولنا."
لوسيان أمسك برأسه، وعيناه تائهتان، وكأنه يحاول الهروب من فكرة غريبة تقتحم عقله، ثم، دون سابق إنذار، انبعث صوت غامض داخل أذهانهم. كان الصوت عميقًا ومهيبًا، أشبه برنين أجراس ثقيلة داخل عقولهم، لكنه كان يحمل كلمات لا يمكن تجاهلها:
"عودوا أدراجكم... من ليس لديه الحق لن يرى القمة... ارحلوا قبل أن تبتلعكم الريح."
كان الصوت كافيًا ليغمر قلوبهم بالخوف، لكنه لم يكن خوفًا عاديًا
كان شيئًا أكثر بدائية، أشبه بصوت الكون نفسه وهو يحذر من اقترابهم من سر لا يُفترض بهم معرفته.
بدأت أجسادهم تترنح،برانتا سقطت على ركبتيها، ولوسيان تراجع بخطوات غير متزنة، بينما أركان كان يحاول أن يبقى واقفًا، لكن عقله كان يعصف به صور مشوشة، مشاهد من الماضي والمستقبل، لا يستطيع فهمها.
قال لوسيان بصوت مختنق: "هذا الحاجز ليس مصنوعًا من السحر فقط... إنه يهاجم أرواحنا."
أدركوا أن التقدم أكثر يعني الموت أو الجنون، دون أن يتحدثوا، وبإرادة مشتركة، ولوا هاربين، قلوبهم مثقلة بالرعب والخوف،عندما ابتعدوا بما يكفي، واستعادوا أنفاسهم، التفت أركان إلى الجبل الشاهق وقال بصوت مرتجف: "إذا كان هذا مجرد الحاجز، فكيف سيكون الحارس؟"
لم يجيب أحد، لكنهم جميعًا أدركوا أن هذا الجبل ليس مكانًا لأي بشري... إنه اختبار، وربما كان الصوت محقًا،الأسرار التي تخفيها القمة قد لا تكون لهم،
ومع ذلك، كان في عيونهم تصميم غريب، وكأن الهزيمة أمام الحاجز لم تكن سوى بداية لمعركة أكبر.
بينما كان الثلاثة يستريحون على ضفاف نهر إمبيرتون، تلك المياه العميقة الزرقاء التي تخترق الجبل كحلم حي، قرر أركان الاقتراب من النهر، كانت المياه صافية لدرجة تعكس السماء وكأنها بوابة إلى عالم آخر، لكنها كانت تحمل إحساسًا غامضًا، وكأنها تنبض بحياة خفية.
قال أركان، وهو يركع قرب الماء: "هذا النهر... ليس عاديًا. أشعر وكأن هناك من يراقبنا."
وقبل أن ينهي كلماته، انبثق شيء من الماء بسرعة خاطفة. يدٌ بيضاء رشيقة كالثّلج أمسكت بمعصمه، وسحبته إلى الداخل بقوة لم يستطع مقاومتها. صرخت برانتا، وحاول لوسيان الإمساك به، لكن المياه ابتلعته قبل أن يتمكن أي منهما من التدخل.
تحت سطح الماء، أركان وجد نفسه في مواجهة كائن لم يرَ مثله من قبل. كانت حورية، جسدها يشع بوهج أزرق خافت، وشعرها يتماوج حولها كتيار الماء ذاته، عيناها، اللتان تحملان أعماقًا لا نهائية، كانت تشعان بغموض وسخرية في آنٍ واحد.
حاول أركان أن يقاوم، لكنه شعر وكأن الماء نفسه يُثقل جسده ويمنعه من الحركة، اقتربت الحورية، وابتسامة مرعبة ترتسم على شفتيها. قالت بصوتٍ كأنه موسيقى تأتي من أعماق النهر:
"ما الذي يجعلك تعتقد أنك تستحق البقاء هنا، يا دخيل؟"
ثم، دون إنذار، دفعته للأسفل، إلى أعماق أكثر ظلمة. شعر أركان بأنفاسه تتلاشى، وكأن روحه تُنتزع منه
وبينما كان يقترب من فقدان وعيه، تركته فجأة، مما سمح له بالصعود إلى السطح لاستنشاق الهواء،لكنه لم يتمكن من التقاط أنفاسه لفترة طويلة، إذ سحبته مرة أخرى إلى القاع.
تكرر الأمر مرات عدة، كأنها تلعب به لعبة قاسية، في كل مرة كان يظن أنها النهاية، كانت تتركه ليصعد، فقط لتعيده إلى القاع مرة أخرى.
وأخيرًا، عندما شعرت الحورية أن لعبتها قد طالت، وقفت أمامه بثبات داخل الماء. قالت، بنبرة أكثر جدية:
"أنت شجاع، أو ربما أحمق، لأنك تحدّيت النهر. لكنني سأمنحك الحياة... وأمنحك شيئًا آخر."
صعد أركان أخيرًا إلى سطح الماء، لاهثًا ومتعبًا، بينما كانت الحورية ترتفع أمامهم جميعًا من النهر. قال لوسيان بدهشة: "حورية... نهر إمبيرتون حيٌّ حقًا."
نظرت الحورية إليهم بابتسامة غامضة وقالت: "ما تبحثون عنه لا ينتمي إليكم. الحارس الهنطاع ليس من يُهزم بالقوة، بل بالفهم. إنه ليس عدوًا، بل اختبار. لكنه لن يسمح لكم بالاقتراب ما لم تُظهروا استحقاقكم. أسرار كهف الريح تُحمى بقسم قديم، وروح الهنطاع هي مفتاح فهم ما ينتظركم."
اقتربت برانتا بحذر وسألت: "لكن كيف يمكننا مواجهة حاجزه؟ رأينا كيف يمكن أن يسلب عقولنا."
أجابت الحورية: "الحاجز ليس سوى صدى من روحه. لفهم الحاجز، عليكم فهم ما يقيد روحه،ابحثوا في أعماق الجبل، حيث يلتقي النهر بالصخر، ستجدون ما تحتاجونه... أو ربما تجدون نهايتكم."
ثم، وبحركة واحدة، عادت الحورية إلى الماء، تاركةً وراءها دائرة من الضوء تتلاشى شيئًا فشيئًا.
قال أركان بصوت ضعيف: "ما زلت لا أعلم إن كانت قد أنقذتني... أم لعبت بي فقط."
ردت برانتا، وهي تنظر نحو الجبل: "على الأقل لدينا خيط. لكن يبدو أن كل إجابة تقودنا إلى أسئلة أكثر غموضًا."
ألقى لوسيان نظرة نحو النهر، ثم إلى الجبل المهيب، وقال: "إذا كان هذا مجرد لقاء مع النهر، كيف ستكون مواجهة الحارس نفسه؟"
بينما كان أركان ولوسيان يتحدثان، ظهر في الأفق ظل يحجب ضوء القمر المتساقط من بين أشجار الغابة. أجنحة ضخمة مغطاة بريش داكن ترفرف في الهواء بصوت عميق، وترافقها هالة غريبة تتراقص في الظلام، مع اقتراب الكائن، أصبح من الممكن رؤية تفاصيل أكثر وضوحًا.
كانت المحاربة المجنحة فاليرا، جنية بديعة المظهر لكن ذات حضور مخيف جسدها الرشيق كان مغطى بدرع براق يعكس لمعانًا مخيفًا، وأجنحتها، التي تمتد بظلالها لتغطي نصف السماء فوقهم، بدت كأنها منسوجة من ظلال الليل نفسه، شعرها الفضي الطويل يتماوج كأنه نهر من الضوء، بينما كانت عيناها تشعان بلون أخضر ساحر لا يمكن مقاومته.
هبطت فاليرا برفق أمامهم،، أطلقت دفقات من السحر قيدت بها أركان ولوسيان ثم خطت ببطء نحو برانتا، التي كانت تقف مذهولة أمام جمالها المرعب اقتربت الجنية المحاربة حتى أصبحت على بعد خطوات منها، ثم رفعت يدها ولمست وجهها برقة غير متوقعة.
قالت بصوت عميق وناعم في آنٍ واحد: "ما أجملكِ، يا أميرة البشر. نادرًا ما أجد مَن يُدهشني... لكنكِ مميزة. خُلقتِ لتكوني جزءًا من عالمي، لا معهم."
تجمدت برانتا في مكانها، تحاول أن تقاوم، لكن نظرات فاليرا كانت كأنها سحر لا يمكن الفكاك منه، حاول أركان أن يصرخ: "دعها وشأنها!" لكن القيود السحرية زادت من إحكامها على جسده، مانعةً إياه من التحرك.
ابتسمت فاليرا بخفة وسخرت قائلة: "أنت شجاع، لكن شجاعتك لا تعني لي شيئًا. ستبقى هنا لتواجه مصيرك مع رفيقك."
لوّحت فاليرا بجناحيها مرة واحدة، مما أحدث عاصفة من الرياح أطاحت بكل شيء من حولها. ثم التفتت إلى برانتا وقالت بنبرة أمر: "أنتِ لي الآن."
وقبل أن يتمكن أحد من التدخل، أحاطت فاليرا برانتا بجناحيها وارتفعت بهما إلى السماء. صرخ لوسيان محاولًا اللحاق بهما، لكن الظلام ابتلع الجنية وبرانتا، ولم يبقَ سوى الصمت وضوء القمر الشاحب.
ترك أركان ولوسيان مقيدين بين الظلال، والمخلوقات المتوحشة تزحف نحوهم من أعماق الغابة
كانت فاليرا الجنيه السائحه التى تنتقل بين العوالم الغير مرئيه