رواية الشقة (كاملة جميع الفصول) بقلم عادل الصعيدي

رواية الشقة (كاملة جميع الفصول) بقلم عادل الصعيدي

رواية الشقة (كاملة جميع الفصول) بقلم عادل الصعيدي


 كامله 

قصه الشقه


شغلي أجبرني أسيب إسماعيلية وأنزل أعيش في القاهرة، وبما إني راجل متجوز، فكان لازم آخد مراتي والأولاد معايا.. والشغل وفر لي شقة مفروشة كويسة في الدقي، جنب مستشفي معروفة بدون داعي لذكر اسمها.. بس كان فيه مشكلة واحدة في الشقة، وهي إن الشقة في دور أرضي علوي، وإن الشقة فيها جنب بيطل على حوش المستشفي نفسها، ولأنها في الدور الأول فتقريبًا إحنا ساكنين في المستشفي مش في العمارة، مش كده وبس، ممكن ده يبقي عادي وممكن التعايش معاه،بس في حاجة كمان؛ إن الحوش اللي بتطل عليه الشقة، فيه الغرفة اللى بيتم غسل فيها المتوفين في المستشفي قبل استلام ذويهم جثثهم ودفنها، وده بصراحة كان مخيف جدًا، لكن ما باليد حيلة، السعر مناسب والمكان جميل، وقريب من شغلي في جامعة القاهرة، وكمان إحنا اللي لينا هو اللي جوه الشقة وبس، ولو على البلكونة اللي بتطل على مكان غُسل الموتى ده، فإحنا مش هنستعملها، لأنها بلكونة فرعية مش مهمة يعني.. وده كلامي اللي اقنعت بيه مراتى والأولاد عشان اطمنهم.. بس أنا من جوايا كنت قلقان حبتين.


 



بعد ما نقلنا الشقة، طبعًا حصلت خناقة بين ياسين وريم ولادي، مين فيهم هياخد الأوضة، وانتهت إن ياسين هو اللي ياخدها، وده بعد ما فهمته إن هو الراجل، وإن البنات بتخاف إنما الرجالة مابتخافش وقلبهم جامد.

لما الساعة جت ٩ بليل، قامت إيمان مراتي تحضر العشا، وسمعتها بتنادى عليا بخوف، فقومت بهدوء عشان الأولاد مايحسوش بحاجة، ولما دخلت عليها المطبخ لقيت وشها مصفر، وعنيها مبرقة، وعمالة تبص لي وتبص ناحية شباك المطبخ، شكلها فزعنى وقلقنى وسألتها:

_ في إيه؟ أنتي خايفة كده ليه؟

ماتكلمتش وشاورت لى على الشباك اللي كان مفتوح، ولما بصيت منه، هو كمان بيبص على مكان تغسيل الموتى في المستشفى، بس لقيت الوضع طبيعي جدًا، وماكنش فيه أي حاجة غريبة.

قفلت الشباك وقولت لها:

_ أنا مش عارف مالك، بس أنا هفضل معاكي أهو لحد ما تخلصي الأكل، ولما الأولاد يناموا نتكلم.


وبعد ما الولاد اتعشوا وناموا، رجعت سألت إيمان عن سبب خوفها، فقالت إنها كانت بتغسل حاجات السلطة في الحوض، ورفعت عينيها لقت واحد في وشها باصص من الشباك، واقف بره ووشه في وشها، ولابس كفن أبيض، وفي حتتين قطن في مناخيره، وعنيه مغمضة، الغريب إنها شافت المشهد كامل، لا هي قادرة تزعق، ولا تتحرك ولا تعمل أي رد فعل، فضلت تتابع المشهد اللي خد دقيقه بيحصل، رغم إن الدقيقة دي فاتت عليها كأنها سنة، وبعدها كل حاجة اختفت..


ماكنش في إيدى غير إني أطمنها، وفضلت أقولها ماتخافيش يا حبيبتى، ده بس عقلك الباطن والخوف من موضوع المغسلة ده صور لك كده، لكن ممكن، ومش ممكن بس ده أكيد، أكيد ماحصلش وده مجرد توهم، وبعدين اجمدي كده، أومال ياسين وريم بقى يعملوا إيه؟

 وفجأة سمعنا صوت ريم بتصرخ، اتفزعنا وجرينا على أوضتها، وياسين كمان خرج من أوضته، ولقينا ريم منكمشة في زاوية الأوضة وعمالة تبكى ومنهارة وبتقول:

_ أنا خايفة، الميت عايز ياخدني معاه.


إيمان خدتها في حضنها وطبطبت عليها، وقالت لى إنها هتنام جمب البنت الليلة دي، وإن أنا أنام جمب ياسين وماسبهوش لوحده، لكن أنا فضلت مع ريم وخليت إيمان تروح مع ياسين، وبعد ما خرجوا، قعدت جمب ريم وأخدتها في حضني، طبطت عليها وسألتها:

_ مالك يا حبيبتى؟

قالت نفس اللي إيمان شافته بالظبط، الفرق الوحيد إن الميت كان واقف عند الدولاب، وكان عايز ياخدها معاه، والدولاب مفتوح وبيشاور لها إنها تروح له عشان يمشوا.

فضلت أطمنها لحد ما نامت، بس أنا فضلت صاحي، الخوف سيطر عليا، وأنا عمال ادعي إن الليلة الغريبة دي تعدي على خير..


فضلت قاعد جمب ريم، كل حاجة حوالينا هادية، بس هدوء غريب، الهدوء اللي تحس إنه مخبي حاجة وراه.

بصيت في الساعة لقيتها بقت ١، النوم طار من عيني، قاعد وباصص في السقف، قلبي مش مطمن كأني مستني حاجة تحصل.. فجأة سمعت صوت.. صوت زي "خروشة" بسيطة جاي من ناحية الصالة.. خبطت في إيد ريم عشان أتأكد إنها نايمة، وحاولت أهدى وأقنع نفسي إنها تهيؤات بسبب الخوف والقلق مش أكتر، لكن الصوت بدأ يقرب.. صوت خطوات بطيئة، خطوتين.. تلاتة.. وكل خطوة صاحبها بيقرب من الباب أكتر.

قررت إني أقوم، أنا قولت يمكن إيمان نيمت ياسين، وقامت خرجت من أوضته وجلسة علينا، بس مش هقدر أستحمل قلق الانتظار ده أكتر من كده.. فتحت باب الأوضة بحذر، خرجت خطوتين في الصالة، ولقيت إن الصوت جاي من ناحية شباك المطبخ.

مشيت ناحية، ولقيته مقفول، قولت افتحه واقفله تاني أتأكد إنه مقفول كويس، وإن مافيش حاجة تستحق القلق والخوف ده كله، وساعتها حسيت بهوا بارد، هو آه الجو ساقعة، بس الهوا ده كإنك فتحت تلاجة، فضلت أبص يمين وشمال، هدوء تام في كل مكان، وكل حاجة طبيعية جدًا.. وفجأة وأنا بدخل عشان أقفل الشباك، عيني جت عليه من بره، الشباك كان عليه من بره زي سور حديد كده صغير، قطعة قماش بيضا لازقة في الحديد.

في اللحظة دي؛ نبضات قلبي زادت، عينيا برقت، قربت من القماشة البيضا أكتر اتفاجئت إن عليها أثر تراب، تاني.. على الأرض، جنبيها، كان فيه أثر تراب، ريحتها كانت غريبة.. ريحة زي تراب القبر، أو ريحة جثة..

قطع حيرتي صوت ريم بتنادي عليا بصوت مرعوب، جريت بسرعة على بره، لقيت ريم واقفة قدام باب أوضتها، عيونها مفتوحة على الآخر وبتترعش، وقالت بصوت  مبحوح خرج منها بالعافية:

_ في راجل واقف عند باب الشقة وبيضحك.

قربت منها وطبطبت عليها، وسألتها ليه صحيتي؟ فقالت إنها قامت تشرب، وبعدها رجعت سألتها بهدوء: 

_ إيه يا اللي شوفتيه بالظبط؟


ريم بصت لي بصة كلها خوف ورعب، وقالت بصوت مهزوز: 

_ شوفت يا بابا راجل كبير، لابس هدوم بيضا، ووشه مرعب، زي ما يكون مش بني آدم.. فضل يبص ويضحك ضحكة تخوف، وعنيه سودا زي الضلمة.


لما تسمع الكلام ده من طفلة ٨ سنين، بكمية الخوف الي في صوتها، لازم تخاف فعلًا، تخاف على ولادك قبل ما تخاف من المجهول مهما كان اسمه ووصفه.. حاولت أهدّيها، وأقنعها إنه مجرد كابوس أو تهيؤات، بس عقلي مش قادر يصدق إن كل ده صدفة، إيمان شافت، ريم شافت ، وأنا شوفت القماشة البيضا.. أكيد الشقة دي فيها حاجة مش طبيعية.

بس رجعت وحاولت أتمالك نفسي، وأقول في سرّي إن كل ده ممكن يكون بسبب قلق النقل، بيت جديد ومحافظة مختلفة، وأكيد كلنا بنحاول نتعود.


في الوقت ده إيمان خرجت من أوضة ياسين بعد ما نيمته، ولما لقيتنا واقفين، وريم باين في عينيها الخوف، فهمت إن في حاجة حصلت، بس أنا بصيت لها بصة معناها إنها تسكت وماتسألش، وطلبت منها تدخل تفضل مع ريم، وأنا هنام جمب ياسين، والصبح يحلها ربنا إن شاء الله.. وسيبتهم ودخلت أوضة ياسين، اللي كان نايم، فقعدت جمبه أفكر في كل اللي بيحصل.


بعد حوالي ربع ساعة، فردت جسمي جمب ياسين وقولت أحاول أنام، وساعتها حصلت حاجة فوقتني،  سمعت صوت ضحكة، ضحكة مكتومة جاية من البلكونة، وكأن في حد هناك مستمتع وهو شايفنا خايفين.

اتعدلت وأنا مفزوع، وبدأت أفكر إننا لازم نسيب الشقة ونروح مكان تاني، لكن وقتها سمعت صوت باب البلكونة بيتفتح ببطء.. بصيت على ياسين لقيته نايم، لكن ملامح وشه متشنجة، زي اللي بيحلم بكابوس.. رجعت بصيت على باب البلكونة؛ لقيته مفتوح، رُبعه تقريبًا، فقولت يمكن إيمان نسيته مفتوح مثلًا، مع إن ده مستحيل يحصل، وكدبت نفسي وأنا سامعه بيتفتحه.


قررت أقوم وأقفل باب البلكونة، أول ما قربت شميت ريحة عفن غريبة، والأغرب إني شوفت حاجة تجمد الدم في العروق.

كان فيه آثار رجلين واضحة جدًا، زي ما يكون حد بيتمشى رايح جاي في البلكونة، وإن رجليها فيها تراب، فعلمت على الأرض.. المشهد اللي خلاني أقفل باب البلكونة بسرعة، وأرجع أقعد مكاني تاني على السرير جمب ياسين، المرة دي أنا خايف، ما أهو مستحيل تكون كل دي تهيؤات وهلاوس.

وفضلت صاحي، باصص لباب البلكونة، ومترقب الحاجة المرعبة اللي هتحصل من جديد، الوقت عدى، والنهار طلع.. وساعتها قررت أقول لإيمان كل حاجة حصلت معايا، وقولت لها لازم نسيب الشقة دي حالاً.






الصبح طمني، النهار له عينين زي ما بيقولوا، ريم وياسين فضلوا نايمين، وإيمان دخلت تحضر الفطار، وأنا قعدت أفكر إيه ممكن يتعمل، وساعتها سمعت صوت ياسين، زي ما يكون بيتكلم مع حد في أوضته، قومت جريت بسرعة ودخلت، لقيته قاعدة على السرير وباصص ناحية البلكونة، اللي بابها موارب، قربت من ياسين، اللي شكله ماكنش طبيعي، كأنه مش موجودة معانا في اللحظة دي، وعقله في حتة تانية.. قعدت جنبه وسألته بهدوء: 

_ حبيبي؛ هو أنت كنت بتكلم مين؟

_ عمو اللي طلع من تحت، قال لي إنه مستنيني النهار ده بالليل، وطلب مني أجيب ريم معايا كمان.

حسيت برعب احتلني، دي حقيقة فعلاً، لا تخيلات ولا تهيؤات، الشقة دي ملعونة ومسكونة، مش قادر أستوعب اللي سمعته، ولقيت نفسي بسأله وأنا بحاول أحافظ على هدوئي:

_  طب وقالك إيه تاني يا حبيبي؟

رد بنبرة غريبة كإنه مغيب، حسيت إن اللي بيتكلم مستحيل يكون ياسين ابني: 

_ قال لي إننا هنكون كلنا عيلة جديدة، وإنه مش هيخوفنا أنا وريم تاني أبدًا.


حسيت بجسمي بيقشعر، وخدته من أيده غسلت له وشه، وحسيت إنه بدأ يفوق، وناديت على إيمان وقولت لها:

_ إحنا لازم نمشي من هنا، مش ممكن نقعد ثانية واحدة في الشقة دي.

ولقيتها بتقول لي:

_ أنا مقدرة كل حاجة غريبة بتحصل، بس نمشي نروح فين؟ يمكن كل دي تخيلات.

قطع كلامنا وإحنا بنتكلم فجأة، خروج ريم من أوضتها، عينيها كانت شكلها غريب، زي ما تكون سرحانة ومش مركز معانا، مشيت ببطء ناحية باب الشقة، كأنها مسحورة، أو مشدودة لحاجة هي بس اللي شايفاها، جريت عليها بسرعة، ومسكت إيدها وسألتها: 

_ رايحة فين يا ريم؟ في إيه مالك؟

رد عليا كإنها إنسان آلي:

_ رايحة لعمو، عمو مستنيني، هو برة عايز يشوفني.


في اللحظة دي أركت، إني مش هسمح لحد يأذي ولادي.. قولت لإيمان تِلِم كل هدومنا وحاجتنا بسرعة، الوضع بقى مرعب، مش قادر أفسر اللي بيحصل.. كأن الشقة فيها روح، أو كيان تاني المكان ملكه، أنا أول مرة في حياتي أحس إني في مواجهة حاجة أكبر مني..


بدأنا نلم الحاجة فعلاً، وراحت إيمان تجهز الأولاد.. وساعتها سمعت صوت نقر في البلكونة، زي ما يكون حد بيحد طوب صغير على الإزاز، مشيت ببطء ناحيتها، وفتحت الباب بحذر.. والمنظر اللي شوفته كان كابوسي.. شوفت ظل واقف في البلكونة، أو شبح لشخص طويل، رأسه منخفضة، ومالوش ملامح غير عينين بس، عينين زي عيونا عادي بس مرعبة، وبص لي بصة مليانة كراهية وشر، كأنه بيقول لي إني اتعديت على مكانه.. أنفاسه كانت مسموعة، وراسه بتتحرك ببطء، وفجأة لقيته بيتحرك ناحيتي، وعينيه مليانة غضب، ريحة العفن زادت أكتر، وجسمي كله اترعش زي ما أكون اتكهربت، وساعتها قال لي بصوت مرعب:

_ وجودكم غير مرغوب فيه، الشقة دي بتاعتي، ولو فضلتم هنا؛ فكلكم هتكونوا ملكي.


في اللحظة دي أنا جريت خرجت، قفلت الباب البلكونة جامد، وحسيت إن الأمور خرجت عن السيطرة.. أخدت الولاد وإيمان وخرجنا من الشقة بأسرع ما يمكن، مش مهم هنروح فين أو هنبات فين.

خرجنا من الشقة، وأنا في كل خطوة حاسس إن الشبح ورايا كإنه بيتابعنا، أو بيتأكد إننا فعلاً مشينا.. بس ماحسيتش إن كل انتهت، حسيت إنها مجرد بداية لمطاردة مش هتنتهي..


بعد ما خرجنا من الشقة، قضينا اليوم فندق قريب.. كان باين على إيمان إنها منهارة، وريم سرحانة وشاردة وكأن اللي حصل حلم بالنسبة لها.. وياسين ماكنش قادر يبعد نظره عن الشباك ولا ينام.. وبصراحة أنا حسيت إن هروبنا هروب مؤقت، كأن الرعب اللي سيبناه ورا ضهرنا، هيلاقينا تاني مهما بعدنا.

ولما فكرت لقيت إن الهروب مش حل، في حاجة جوايا بتقول لي إن الشقة دي وراها سر، فقررت أرجع الشارع اللي فيه الشقة، أسأل الجيران والناس، وأحاول أفهم تاريخ البيت ده وإيه علاقته بالليلة الغريبة اللي عشناها.


وعلى طول نزلت روحت هناك، بدأت أسأل بعض الناس في المنطقة عن العمارة، لكن كل مرة كنت بسمع كلام مش منطقي وغريب، كأن المكان ده كاتم سر مرعب فعلاً.. بس أخيرًا وصلت لحاجة؛  واحد من أصحاب المحلات القديمة في الشارع قال لي بهدوء، بعد ما بص حواليه وهو خايف حد يسمعه: 

_ دي مش أول مرة تحصل فيها حاجات غريبة.

 وحكى لي إن الشقة دي اتعرضت لأكتر من حادثة غريبة، وإن اللي بيسكن فيها؛ يا إما بيهرب وينفد بجلده، يا إما بتحصله حادثة غريبة.. لكن أغرب حادثة حصلت، وأول حادثة؛ لما مات شخص في ظروف غامضة جدًا، ولقوا جثته تحت بلكونة الشقة.. الشخص ده كان شغال في المستشفى، وكان مسئول عن غرفة تغسيل الموتى.. وموته فضل لغز كبير لحد وقتنا ده، وماحدش عرف مات إزاي، ولا مين موته.. ومن يومها الشقة اتعفرتت.






شكرته ورجعت للفندق، وأنا مش قادر أصدق اللي سمعته.. بس حسيت إنه فيه رابط بين الكلام ده وبين اللي شوفناه في الشقة.. لما حكيت لإيمان، كان واضح إنها مش قادرة تصدق بس كانت مرعوبة، خصوصًا لما قلت لها إن الليلة دي هنضطر نرجع الشقة لأن الفندق مكلف ومش هنقدر نقعد فيه وقت طويل.. والجامعة لسه محتاجة وقت توفر لنا سكن جديد.


بالليل.. بعد ما وصلنا الشقة تاني، كان الجو كئيب بشكل غير طبيعي..  إيمان دخلت تنام جمب ريم في أوضتها، وياسين نايم جمبي، لكني ما كنتش قادر أنام.. حسيت بحاجة غريبة، زي ما يكون المكان بينادي عليا وبيهمس لي..قومت وخرجت للبلكونة، وفضلت أبص على الحوش.. فجأة، شوفت ظل واقف قدام غرفة تغسيل الموتى في المستشفى.

الظل ده كان شبيه للشخص اللي حكت عنه إيمان، نفس تفاصيل الكفن والقطن في مناخيره.. لكن المرة دي باين عليه غضب أكتر، كأنه منتظرني، كأنه بيقول لي إنه مش هيسيبنا في حالنا.


رجعت جوه الشقة، والعرق مغرقني. حسيت إن الأمور خرجت عن السيطرة، وإننا دخلنا في لعبة كبيرة مش قادرين نفهم نهايتها.. بصيت لياسين اللي لقيته صحي من النوم، وقال لي بصوت مرعوب: 

_ قال لي إنه مستنيني تاني.. الميت ده مش هيبعد عننا.


حاولت أتمالك أعصابي، وطبطبت عليه وطمنته، والليلة عدت بسلام..  تاني يوم الصبح، دخلت بحثت على النت، وفضلت أدور على أي قديمة مرتبطة بالمستشفى.. بعد ساعات من البحث؛ اكتشفت مقال صحفي حادثة "مقتل غامضة، حصلت سنة 1982 في حوش المستشفى.

الشخص اللي مات وقتها كان اسمه عبد الرحمن، واشتغل في المستشفى مدة طويلة، وكان معروف عنه إنه شخص ملتزم وصالح.. لكن الناس حكت عنه بعد موته إن كان ليه جانب مظلم، وإنه كان بيتصرف بشكل غريب في آخر أيامه، كأنه مسحور.. الأغرب إن أسرته اختفت بعدها بكام يوم وماحدش عرف لهم طريق، وكان هو وأسرته ساكنين في السقة، الشائعات حكت إن الروح بتاعته فضلت متعلقة بالمكان، وإنها بترجع من وقت للتاني لحد ما تنتقم من أي حد يجي يسكن في الشقة اللي بتطل على الحوش.

حسيت إن القصة أكبر من أي حاجة أتوقعها، وإننا دخلنا في دوامة مش هنعرف نخرج منها بسهولة.


بعد اللي قريته عن عبد الرحمن في الأرشيف، حسيت إن الحكاية بدأت تبقى أوضح، لكنها في نفس الوقت لسه غريبة وغامضة، واضح إن فيه سر قديم ورا الروح دي، أو الشبح ده، سر بيخليه متعلق بالشقة، ومصمم إنه مايسيبش حد يعيش فيها بسلام.

حكيت  لإيمان جزء من اللي عرفته، لكن من غير تفاصيل كتير عشان ما أخوفهاش أكتر. 


إيمان فضلت تسمعني، بس عينيها بتقول إنها بدأت تفهم الصورة كاملة، وبعد لحظة صمت، سألتني بصوت مهزوز: _ يعني إحنا مربوطين بلعنة؟ طيب إيه الحل؟ نسيب الشقة دي ونرجع إسماعيلية؟

_ مش عارف، الموضوع مش سهل زي ما إحنا فاكرين.. تقريبًا مش هنقدر نهرب، يا إما نكشف السر، أو نضيع، أكيد فيه حاجة عبد الرحمن عايز يقولها.. سرّ مدفون هو اللي مخليه مش مرتاح.


 قررت أدخل المستشفى، وأقابل أي مسؤول قديم فيها، وعنده معرفة بجزء من تاريخ المكان.. عملت نفسي صحفي، وبعمل تحقيق عن المستشفيات القديمة، وبالفعل وصلت لموظف قديم، راجل كبير في السن، وأول ما سألته عن عبد الرحمن. لقيته اتوتر، واتنهد وقال: 

_ عبد الرحمن كان إنسان كويس، لكن بعد الحادثة بقى غريب جدًا.. في يوم من الأيام كان بيشتغل بالليل وطلبوا منه يغسل جثة طفل مات في حادثة.. من بعدها، حالته النفسية اتغيرت، وبدأ يقول إن الطفل ده مش مجرد ميت، وإن روحه كانت بتحاول توصله رسالة.


استغربت جدًا وأنا باسمع التفاصيل.. الراجل كمل وقال: _ عبد الرحمن كان بيحكي إنه بيشوف الطفل ده في أحلامه، كأنه بيطلب منه يعمل حاجة عشان يقدر يرتاح، وبمرور الأيام، بقى مهووس بفكرة إنه لازم يكتشف سر الطفل ده لحد آخر أيامه، وحاول يوصل لعيلة الطفل، في الليلة اللي مات فيها عبد الرحمن، عرفنا أو بصراحة سمعنا إنه حاول يحفر في مكان هنا المستشفى، تحديدًا تحت البلكونة الشقة اللي في العمارة اللي جمب مغسلة الموتى، كان بيدور على حاجة هو بس اللي عارفها، بس الليلة دي كانت نهايته.. مات في ظروف مش مفهومة، وعيلته اختفت بعدها.. ومن بعد الليلة دي؛ كل اللي يسكن في الشقة دي بيشوف حاجات غريبة، وإن كيان مرعب بيطالبهم بحل اللغز اللي ماقدرش عبد الرحمن يحله.






شكرته ورجعت الشقة وأنا محتار أكتر، واضح إن فيه شيء مدفون أو مخفي في المستشفى أو في الحوش الخلفي تحديدًا.. حاجة مرتبطة بعبد الرحمن وبالطفل اللي مات.. قررت أبدأ أدوّر حوالين الحوش بنفسي، من غير ما أعرف إيمان عشان ما أخوفهمش.


بالليل، بعد ما الكل نام خرجت البلكونة، ونزلت على الحوش بهدوء.. بدأت أتمشى في المكان، وأخدت معايا كشاف صغير. وأنا ماشي؛ حسيت بشعور غريب، كأن المكان كله بيبص عليا.. فجأة؛ لاحظت بقعة على الأرض شكلها مختلف، زي ما يكون الأرض كانت محفورة واتردمت تاني، لأن الأرض كانت ترابية، فنطيت للبلكونة تاني، ودخلت الشقة، كانت عندنا جاروف معدن كده، جيبته ونزلت الحوش من تاني، نزلت على الأرض، وبدأت أحفر بإيدي وبالجاروف.. بعد دقائق قليلة، لمست حاجة معدن، وبصعوبة شديتها من الأرض. كانت علبة كبيرة مصدية، شكلها قديم جدًا. فتحتها، ولقيت فيها كراسة، وورقة مكتوبة بخط منعكش، اللي كتبها كتبها بسرعة أو بخوف، كأنها رسالة عبد الرحمن كتبها قبل موته.

الرسالة كانت بتقول:

"لو لقيت الرسالة دي، فأنا فشلت.. كنت بحاول أنقذ روح الطفل، لكني ماقدرتش.. للأسف روحه محبوسة هنا.. أرجوك، ساعده عشان يرتاح، وافتح الباب الأخير في الحوش، ساعتها هتلاقي الحقيقة.

حسيت جسمي قشعر، واضح إن السر مستخبي هنا في الحوش، سر مأساة قديمة، وممكن يكون هو اللي حابس روح الطفل وعبد الرحمن معاه.

رجعت الشقة وأخدت العلبة معايا، وجوايا إحساس غريب، مزيج بين الرعب والأمل..

قعدت وفتحت الكراسة، اللي كان مكتوب فيها الآتي:

إن في يوم وصلت له جثة طفل الصغير، اسمه حسن، اللي اتوفي في حادثة غريبة.. الطفل كان متعلق بأمه، وهي كمان، ولما توفى، انهارت تمامًا، ورفضت تتخلى عنه حتى بعد ما أكدوا وفاته.. كان كل اللي في المستشفى عارفين قد إيه كانت الحادثة غامضة، لكن بالنسبة لعبد الرحمن، كانت الليلة دي بداية النهاية.

لما بدأ عبد الرحمن يغسل الطفل، حس بشيء غريب، وكأن الطفل كان عايز يتكلم.. يصرخ.. يطلب الإنقاذ. حاول عبد الرحمن يبعد الأفكار دي عن باله، أقنع نفسه إنها مجرد خيالات.. لكن لما بص لوش الطفل أكتر قريب، حس إن  الطفل كان باصص له مباشرة، وعايز يوصله سر كبير مش قادر يكشفه.

بعد الليلة دي، بدأت أحلام عبد الرحمن تتغير. في كل حلم، كان بيشوف الطفل حسن واقف في الحوش، ساكت، وفي عينيه حزن كبير وغضب أكبر. الطفل كان بيرفع ايده وبيشاور على باب في آخر الحوش.. باب قديم مقفول ماحدش كان بيستخدمه.


ومع مرور الأيام، عبد الرحمن عرف إن الطفل ده ما ادفنش بره، والمستشفى خبت جثته، وإن المستشفى كان فيها عصابة بتسرق أعضاء الأطفال، وجثة الطفل ده ادفنت ورا الباب المقفول، اللي هو تحت البلكونة بتاعت الشقة، وعبد الرحمن حاول يكسر الباب لكنه ما أعرفش، فخمن إن الطفل ممكن يكون ادفن تحت الباب مباشرة، وهو بيحفر سمع حد من الأمن جاي ناحيته، ردم الحفرة بسرعة، لكن طبعاً ماقدرش يخفي أثرها بالكامل، وساعتها اتكشف، فقرر يكتب حكايته، وإنه فشل، ودفن كل حاجة في نفس المكان، وكان قلبه حاسس، عبد الرحمن مات قبل ما يقدر يحرر روح الطفل ويلاقي جثته، واترمى في نفس المكان، عشان يبان إن في روح شريرة قتلته، ومش بعيد كده تكون العصابة دي، قتلت أسرة عبد الرحمن بالكامل.. أما الطفل حين، فكان مجرد طفل وحيد أمه الأرملة، ومن طبقة فقيرة، فماقدرتش أمه ترجع حقه..


دي الحكاية اللي قريتها في الكراسة، ممكن يكون عبد الرحمن اتصرف غلط، كان لازم يبلغ الشركة، أو يكسر الباب بأي طريقة، ويدخل يشوف إيه اللي مستخبي ورا الباب ده.. ودي بقت مهمتي دلوقتي، لأن بعد موت عبد الرحمن، روحه بقت مربوطة بالمكان ده، كأنها بتبحث عن اللي يكمل اللي هو ماقدرش يعمله، عن حد يحرر روح الطفل من الليلة الأخيرة اللي عاشها، ويفك القيد اللي حبسه في عالم ما بين الحياة والموت، مش بس الطفل، وعبد الرحمن نفسه..






بعد ما عرفت قصة عبد الرحمن والطفل حسن، كل شيء بقى أوضح.. كل اللي شوفته ماكنش خيالات، رسايل من عالم آخر، من أروح ضايعة وتايهة بتدور عن تحريرها.

قررت إني أتحرك بسرعة.. لازم أحرر حسن 

وعبد الرحمن.. استنيت الليل، ونزلت الحوش مرة تانية، وأنا مصمم على فتح الباب القديم، والمرة دي معايا المعدات اللازمة، وقولت لإيمان كل حاجة، وإنها تراقبني، ولو حست بحاجة تبلغ الشرطة.

وصلت للباب، وبدأت أحفر تحته، الباب مارضيش يتفتح، حاولت معاه بكل الطرق اللي ماتخليش حد يكشفني، ولو زودتها، فأكيد حد هيسمعني، فاضطريت أحفر، وفهمت ليه عبد الرحمن اضطر هو كمان يحفر.  دقات قلبي كانت سريعة، وكل ما حفرت أكتر، كل ما كنت بسمع أصوات همسات بتهمس في ودني: "ساعدنا، كمل وساعدنا".

وبعد ربع ساعة، لمست شيء صلب.. كان سلم خفي تحت الأرض، شيلت التراب بسرعة، ولقيت السلم بيوصل لمكان تحت الأرض، فنزلت من غير تفكير، ولقيت نفسي في مكان ضلمة، نورت الكشاف، وساعتها بدأت أشوف كل حاجة بوضوح، أنا واقف في مقبرة جماعية، كل اللي اتاخدت أعضائهم جثث مرمية تحت، كمية عضم غير طبيعية، لا تعرف مين حسن، ولا مين عبد الرحمن، بس الأكيد إن كل دول ضحايا الطمع والجشع، وعصابة كبيرة كانت بتقوم بسرقة الأعضاء. ومش بعيد عبد الرحمن يكون ادفن هنا هو وأسرته كلها، مش حسن لوحده..


خرجت من المكان بسرعة، قبل ما حد يكتشف وجودي، ورجعت كل حاجة مكانها، وجريت على القسم وبلغت الشركة، واديت لهم الكراسة والورقة، والشرطة اتحركت فورًا، وقدروا يكتشفوا كل حاجة، قفلوا المستشفى، وفتحوا تحقيق كبير مع كل شخص اشتغل أو بيشتغل جوه المستشفى..


في النهاية؛  أدركت إن مهما كانت الحقيقة مؤلمة، إلا إنها ضروري ولازم تظهر وتبان.. وبعدها كل حاجة بقت طبيعية، الشقة بقت هادية وجميلة، والهمسات اختفت، الأشباح بطلت تظهر، وفهمت إن الأشباح ماكنتش بتضللنا، لكن كانت بتحذرنا، إننا لو سكتنا عن الحقيقة، الحقوق هتختفي، فمهما كان الخوف، لازم نسعى لإظهارها..


تمت..

لمتابعة باقي الرواية زوروا قناتنا على التليجرام من هنا

تعليقات
تطبيق روايات
حمل تطبيق روايات من هنا



×