رواية آلام العشق الفصل الخامس 5 بقلم نجلاء لطفي

 


رواية آلام العشق الفصل الخامس

ماذا فعلت بنفسي؟ لقد أصابني مس من الجنون بسبب قربها مني، نظراتها الحزينة المُنكسرة تحطم قلبي تحطيماً،تمثيلها الحب أمام أختيها يجعلني أرغب في ضمها لصدري لأبثها أشواقي ولوعتي وحتى غضبي منها لأنها كانت لغيري. كنت أتجنب وجودي معها بمفردي بقدر الإمكان حتى أستطيع التحكم بنفسي، وخاصة ليلاً عندما كانت الأسئلة تتدفق لذهني،لماذا لا أستمتع بها وهي زوجتي؟ هي لن ترفض، لكن قلبي ذلك العاصي يرفض أن يغفر لها زلتها ويأبى أن تكون له وقد خفق قلبها لأخر وسلمت نفسها له. كثيرا ما فكرت أن أمحو بحبي لها أثره من قلبها وجسدها، لكني كنت أتراجع لأني لا أرغب في إرغامها علي ولكن أتمنى أن تدرك يوما قدر حبي لها وتأتي إلي راغبة لتبادلني الحب، عندها ستكتمل سعادتي.

عندما جئنا لشقتي في القاهرة وازداد قربنا وبدأت تتجول في الشقة بملابس البيت التي تُظهر جسدها ذو المنحنيات المثيرة وشعرها الغجري كانت تثير رغبتي وتدفعني للجنون. في القرية كنت أهرب من البيت بحجة متابعة الأرض ولقاء الأصدقاء وكنت أغلق باب غرفتي علي حتى لا أراها. أما في القاهرة فكنت أنام في الصالة وكنت أراها وهي تخرج من غرفتها بملابسها المحتشمة إلى حد ما لكنها كانت تظهر مفاتنها فيهرب النوم من عيني ليال طوال. لم يستطع غضبي منها أن يمحُ حبها من قلبي يوماً، فكنت أحترق بنيران العشق والغضب في آن واحد، وأدركت أن الحل الوحيد في بعدي عنها. كنت أهلك نفسي في عملي بالشركة في قسم الموارد البشرية، وبعدها أكمل عملي على سيارتي كسائق في شركة أوبر حتى أهرب منها ومن نجلاء لطفي تواجدي معها. في الماضي كنت أعمل بمهنة السائق بالإضافة لعملي لأدخر المال اللازم للزواج منها، أما الآن فلم أعد بحاجة للمال إنما بحاجة للهروب منها ومن عشقي لها.
لما عرفت برغبتها في العمل خفت عليها من العالم الخارجي الذي لن يرحم سذاجتها وربما تقع تحت رحمة وحش بشري كذلك السافل الذي انتهك حرمتها، لذلك قررت أن أوجد لها أي عمل في الشركة معي حتى تكون تحت رعايتي وحمايتي حتى تكتسب القدرة على مواجهة الحياة وحدها وعندها سأتركها قبل أن أُجن بسببها.


كانت تأتي معي صباحاً وبعد انتهاء العمل أوصلها للبيت وأذهب لعملي حتى العاشرة مساءًا عندما أعود منهكاً فأتناول طعامي وربما أغرق في النوم من شدة إرهاقي وكثيراً ما أقضي ليلي فريسة لعشق تلك العيون اللوزية والبشرة الوردية والشعر الأسود المتمرد على كل القيود منطلقاً من عقاله بحرية، شعراً يشبه صاحبته التي تبدو الآن مُنكسرة وحزينة، لكنها كانت في الماضي تفيض مرحاً وحيوية.
في العمل لاحظت نظرات الإعجاب بها رغم ملابسها المحتشمة لكن جسدها المكتنز كانت تفاصيله تظهر بوضوح مهما حاولت ستره مما كان يشعل غيرتي،حينما كانت نظرات الرجال المُختَلسة تلتهمها برغبة وهي غير مدركة. كانت تتعامل بحسم واحترام مع الجميع وتجنبت صداقة الفتيات حتى لا يدركن حقيقة علاقتنا، لكنها رغم ذلك لم تسلم من ألسنة الجميع، ومن بعض محاولات التحرش اللفظية التي صدتها بعنف ، كما عرفت فيما بعد، ففي مجتمعنا تعشق النساء النميمة والتدخل في شئون الأخرين، ويعشق الرجال أن يستعرضوا ذكورتهم من خلال محاولة استمالة أية أنثى وخاصة من تبدو صعبة المنال.


تجاوزنا نحو ثمانية أشهر منذ زواجنا وأنا أمنع نفسي من الاقتراب منها نجلاء لطفي وفي كل يوم أراها تزداد نضجاً في الحياة والتعامل مع الناس، حتى أنها رغم عملها لم تعمل في شئون البيت فدائماً أجد طعاماً مُعداً في انتظاري، وملابس نظيفة وكذلك البيت مُرتب ونظيف،فلم تعد تلك الفتاة المُدللة التي تعتمد على والدتها وأختيها، إنما صارت امرأة ناضجة تتحمل المسؤولية. أرادت بعد أول راتب لها أن تشاركني مصروفات البيت فثُرت عليها بشدة وسألتها هل تراني رجلاً حقاً أم مجرد ذكر؟ وقلت لها أني متكفل بكل نفقاتها في حدود إمكانياتي لأنها زوجتي،و راتبها ملك لها تنفقه على ما تريد أو تدخره،فلتفعل ماتريد، ثم نصحتها أن تدخر على الأقل نصفه فربما تحتاجه فيما بعد.
كذلك كنت أضع عائد الأرض في حسابها هي وأختيها وكنت أناقش معهن ومع زوجيهما تفاصيل الحساب والنفقات والمصروفات حتى لا يظن أحداً أني أستغلهما. ذات يوم عرض زوج منة ذلك اللزج سامح أن يأتي معي لمحاسبة المزارعين ليتولى فيما بعد هو شئون أرض زوجته، فوافقته وخرجنا معاً لمقابلة الناس وأراد بمكره وخبثه أن يعرف من وراء ظهري حقيقة الأرقام ومدى صدقي، ثم علمت أنه حضر أثناء غيابي وسأل المزارعين عن سعر الأرض إن أراد بيعها. فسألت منة عندما كانت في بيت أبيها بدونه في وجود سلوى وهدى:
-منة إنتي صحيح عاوزة تبيعي الأرض؟


فأجابت بدهشة:
-لأ ليه؟
-لأن جوزك راح سأل المزارعين عن تمنها لأنه بيفكر يبيع.
ظهرت معالم الصدمة على وجهها ولعنت ذلك الطامع في نفسي، ثم تمالكت نفسي وقلت:
-نصيحة من أخ يا منة بيت أبوكي والأرض دول أمانك في الدنيا ومهما يكون جوزك كويس القلوب بتتغير وماتعرفيش بكرة فيه إيه
-بس سامح بيحبني وكويس معايا
-مش باشكك فيه لكن حتى افرضي أحواله المالية اتغيرت اهو يبقى عندكم حاجه تستركم انتم وأولادكم، والأرض بتطلع خير وتمنها بيزيد، لكن لو صممتي تبيعي يبقى احنا اللي نشتري، سلوى أو أنا أو هدى لكن مش هاسمح لحد غريب إنه يدخل في أرضنا مهما كان مين.
صمتت منة ولم تجب وعندما سافرنا وجدت سلوى تقول لي:
-ليه عملت كده مع منة؟
نظرت إليها متعجباً وقلت:
-لأنها زي أختي ومصلحتها تهمني وكمان دي وصية عمي الله يرحمه
-بس؟


-قصدك إيه مش فاهم؟
-قصدي زمان كانت فيه إشاعات قوية بتقول إنك بتحبها وإنت ما نفيتهاش.
نظرت إليها وأنا لا أفهم هل تلك غيرة سببها الحب أم خوفها على مظهرها وكرامتها، ثم قلت:
-أعتقد إني نفيتها لما ما طلبتش أخطبها، وكمان لما عمي سألني عن رأيي في سامح قلت له اللي أعرفه عنه ولما عمي وافق ما اعترضتش.
-وإيه اللي مخليك معترض حالياً واحدة وجوزها وهم أحرار في حياتهم.
-كتير الحب بيعمي الإنسان عن إنه يفكر بالعقل ويدور على مصلحته وما يضحيش عمال على بطال، وده دوري إني أنبهها ولو صممت هاعمل اكتر حاجه تحافظ على مصلحتها.
-لو كانت دي هدى كنت هتعمل كده برضه؟
-أكيد بس هدي شخصية عقلانية عواطفها مش بتتحكم فيها زي منة عشان كده مش باخاف عليها، كمان محمد غير سامح خالص.
فقالت بصوت هامس:
-فعلا محمد غير سامح
فيه حاجة عملها سامح؟ عاوزة تقوليلي حاجه؟
-لأ أبداً
اتصلت بي منة بعد عدة أيام وقالت لي أنها ترغب في بيع فدان واحد من أرضها لأن سامح يرغب في عمل مشروع بجوار عمله فقلت لها:
-وماله أنا هاشتريه بس بتمنه تدخلي شريكة معاه، منها تحافظي على مالك وفي نفس الوقت تساعديه، وده يكون بعقد رسمي.
-ما أقدرش أقوله كده يافريد
-لأ تقدري واسمعي كلامي أنا خايف على مصلحتك وما تنسيش وصية عمي لكم إنكم تاخدوا برأيي وتنفذوه.
-حاضر يا فريد
عندما عدت للبيت حكيت لسلوى على العشاء ما حدث فقالت:
-سامح مش سهل أبداً
-لو انتي مكانها هتتصرفي إزاي؟
-لك إنت أبيع وأنا مغمضة وأديهم لك من غير أي ورق
تعجبت من ردها الذي لم اتوقعه وقلت:


-للدرجة دي واثقة فيه؟
-ده مش رد عاطفي ولا رد جميل، ده نتيجة مجموعة مواقف أولها إن بابا الله يرحمه كان بيستأمنك على الأرض وعلينا وكنت دائما أد الثقة دي، تاني حاجه إنك بعد وفاته بتراعي أرضنا بدون مقابل وبتحاسبنا بالمليم، ورغم جوازنا الشكلي بترفض إنك تستغلني أو حتى تاخد أي فلوس مني، حاجات كتير تخليني أثق فيك أكتر من نفسي.
سكت للحظات وأنا أنظر في عينيها وقلت:
-عاوزك تتعلمي إنك ماتثقيش في حد ١٠٠٪ وتخلي دايما احتمال الغدر عشان ماتتصدميش، القلوب بتتغير وكمان ناس كتير اللي في قلبها غير اللي بتظهره، وأظن تجربتك لازم تكون علمتك كده
نظرت إلي بحزن وانكسار وقالت:
-ليه كل ما أحاول أنسى تفكرني؟ مش هتسامحني بقى؟
-لازم تفتكري عشان ماتقعيش في نفس الغلط تاني.
-ما جاوبتش على السؤال التاني.
-محدش عارف بكرة فيه إيه.
كنت أرى في عينيها رجاء نجلاء لطفي وامتنان لكني تمالكت نفسي، لأني أدرك أن مشاعرها تجاهي مجرد تعود ورغبة في رد الجميل، لكنها ربما بعد فترة تندم على حياتها معي.
وافق سامح على أن تدخل منة معه شريكة بشرط أن تبيع الفدان لواحدة من أختيها، فوافقت وطلبت من سلوى أن تشتريه فأخبرتني أنها لا تملك المال الكافي فقلت لها أني سأقرضها المال اللازم وأن تسدده حينما تريد، فقالت بتعجب:
-و مش خايف أغدر بيك بعد الأرض ما تتسجل بإسمي؟
-لأ مش خايف لأني مآمنك على اسمي وسمعتي مش هآمنك على شوية فلوس؟ وحتى لو أخدتيهم فداكي.
فوجئت بها تلقي بنفسها على صدري وتطوق رقبتي بذراعيها وتقبل وجنتي، فاشتعلت النيران في جسدي وكدت أفقد تعقلي وأغمرها بحبي وأشواقي، لكني تمالكت نفسي في اللحظات الأخيرة وأبعدتها برفق عندما تذكرت أنها كانت لغيري، ورأيت في عينيها الحزن والانكسار فقالت والخجل يعتريها:
-أنا آسفة إني اتجاوزت حدودي معاك، واضح إن غلطتي هتفضل بيننا العمر كله.
انسحبت لغرفتها وأغلقتها عليها وسمعت صوت بكائها فتركت الشقة ونزلت أهيم على وجهي في الشارع حتى وصلت لكورنيش النيل وجلست أمامه أفكر هل بإمكاني استكمال حياتي معها بشكل طبيعي؟ ماذا لو شعرت بالحنين لهاني وغفرت له؟ ماذا لو مالت تجاه آخر غيره؟ الطلاق هو الحل الوحيد لعذابي وحتى أمنحها حرية الاختيار.

باعت منة الأرض لسلوى وقبضت الثمن وأخبرتني أنها كتبت عقد شراكة بينها وبين سامح لدى المحامي. وبعد نحو أسبوعين فوجئت بسلوى تسلمني عقد بيع نصف الفدان بإسمي فاندهشت وقلت لها:
-ليه عملتي كده؟
-الحق حق ومايزعلش حد.
-بس أنا ماطلبتش ده منك
-ده حقك ومش محتاج تطلبه
-اقعدي يا سلوى عاوز اتكلم معاكي في موضوع مهم
جلست وفي عينيها نظرة حزن لم أستطع محوها رغم رقة معاملتي لها، تنهدت ثم قلت:
-أنا جاي لي شغل في دبي وهاسافر أول الشهر.
-هتسافر وتسيبني هنا؟
-عاوزة تقعدي هنا وتكلمي في شغلك براحتك هادفع لك إيجار سنة، عاوزة ترجعي البلد برضه براحتك، أنا هاطلقك وقرارك هيبقى بإيدك
انفجرت باكية وقالت:
-ليه أنا عملت إيه؟ أنا عايشة بقالي سنة رغم معاملتك الجافة ليه ماليش هدف غير رضاك.
-انتي قلتيها بنفسك بقالنا سنة محرومة من حقوقك كزوجة وده حرام عليه هاطلقك عشان تختاري اللي يناسبك وأعتقد إن السنة دي غيرتك.
-ولو قلت لك إني راضية أكمل باقي عمري كده بس أكون معاك؟ ولو عاوز تتجوز براحتك بس خليك جنبي.
-يا سلوى كل الكلام ده حلو دلوقتي وسهل إني أستغلك لكن بعد كده هتندمي وتكرهيني.
-ولو سبتني برضه هاكرهك.
ابتسمت بألم وقلت:
-يمكن تكرهيني في البداية لكن بعد كده هتشكريني.


-يافريد أنا بحبك ما تسبنيش
تسارعت دقات قلبي وودت لو أضمها لصدري لأخفيها عن العالم وأغرق معها في بحر الغرام ولو لمرة واحدة ولكني تراجعت خوفاً من نجلاء لطفي أن أدمنها ولا أستطيع البعد عنها، فكان قرار سفري قاسي جداً على قلبي.
أدركت أنها باحت بكلمات لم تؤثر في فبكت وأشاحت بوجهها عني فقلت بوهن:
-فكري هتعملي إيه وخدي قرارك قبل أخر الشهر.
تركتني ودخلت غرفتها ومن يومها لم تتحدث معي إلا قليلاً وحتى الطعام لم تعد تتناوله معي وامتنعت حتى عن النظر إلي فكان ذلك أقسى عقاب لي أن تحرمني من نظراتها التي تسعد قلبي. خصامها أضعفني كثيراً وفكرت في التراجع عن الفكرة كلها، لكني عدت لأتمسك برأيي من أجلها هي فلن أكون أناني في حبها، فلو أحبتني حقاً ستأتيني معترفة بحبها وعدم قدرتها على البعد عني، لكن هل هذا ممكن بعد أن صددتها؟ سألت الله كثيراً أن يلهمني الصواب.
وقبل نهاية الشهر فوجئت بضجة كبيرة في الشركة وأحد الزملاء اتصل بي يخبرني أن زوجتي تتشاجر مع مديرها، خرجت من مكتبي مسرعاً إليها وكل الخواطر السيئة تطرق رأسي بقوة. وصلت لمكتبها فأفسح لي الموظفين المكان فوجدته يقول بغضب:
-تعالى يا أستاذ شوف مراتك المجنونة بتتخيل حاجات مش حقيقية
فقلت بحدة أرعبته وأدهشت من حولي لأني معروف بهدوئي:
-اتكلم عنها كويس ومش هاسمح بأي تجاوز


-كويس إيه؟ الهانم اللي أصغر من أولادي عشان باعطف عليها وباعاملها كويس عشان خاطرك بتتهمني إني باتحرش بيها، هي فاكرة نفسها مين؟
نظرت إليه بغضب عارم أسكته، ثم قلت لها:
-إيه اللي حصل؟
فقالت بانفعال ووجهها يعتريه الشحوب ومصدرها يرتفع وينخفض نتيجة لشدة إنفعالها وسرعة تنفسها:
-المدير المحترم اللي أنا أصغر من أولاده بيمد إيده ويلمسني ولما اعترضت يقولي أنا اللي هاقدرك مش فريد اللي مش عارف قيمتك روحت ضربته بالقلم
غلى الدم في عروقي وأردت أن أقتله وبالفعل تهجمت عليه لولا أن الزملاء تدخلوا للحول بيني وبينه، وجاء مدير أمن الشركة وقال:
-أستاذ فريد الموضوع كله هيتحول للتحقيق وفيه كاميرات مراقبة هتتفرغ والحقيقة هتبان ومهما كان مين الغلطان هيتعاقب دي أوامر رئيس مجلس الإدارة، اتفضل معايا انت والمدام على مكتبك وحالاً الشئون القانونية هتبدأ التحقيق
فقالت سلوى بتصميم:
-مش يمكن تجاملوه على حسابي، أنا هاعمل محضر بالواقعة في البوليس
فنظر إلي مدير الأمن فقلت:
-هي معاها حق إيه اللي يضمن إنكم ما تضيعوش حقها؟
-كلمة شرف مني
-أقسم بشرفي لو حصل أي تلاعب هاخد الكل في سكتي وحقها مش هيضيع
فأمسكني مدير أمن الشركة من ذراعي بقوة وقال:
-اتفضلوا معايا
ثم نظر للموظفين وقال :
-كل واحد على مكتبه وتعليمات رئيس مجلس الإدارة مافيش ولا كلمة تخرج من الشركة وإلا هتكون العقوبة شديدة.
توجهنا لمكتبي وتركنا وخرج وساد الصمت بيننا حتى قطعته سلوى بقولها:
-مصدقني؟


-طبعاً وحقك مش هاسيبه
نظرت إلي نظرة أربكتني وقطع الحوار الصامت بيننا طرقات على الباب، فأذنت الطارق بالدخول، فدخلت نهى عاملة النظافة المسئولة عن تنظيف مكتب مدير سلوى مُرتبكة وقالت وهي ترتجف:
-كنت عاوزة حضرتك في كلمتين
-ادخلي يا نهى، أنا سامعك
فنظرت بارتباك لسلوى وقالت:
-مدام سلوى مش أول واحدة يتعرض لها، موظفات كتير اتحرش بيهم لكن بيسكتوا خايفين من تهديده بقطع عيشهم، حتى السكرتيرة اللي قبل مدام سلوى مشيت بسبب كده، وأنا كنت باشوفه ومش قادرة أتكلم عشان ما يقطعش عيشي وأنا في رقبتي كوم لحم
ساد الصمت بيننا للحظات فقالت سلوى:
-وإيه اللي خلاكي تتكلمي النهاردة؟
بكت وقالت:
-سببين الأول إن بنتي اللي في ابتدائي اتعرضت امبارح للتحرش من زميلها فى المدرسة ويبقى قريبنا في نفس الوقت فعرفت إنه عقاب ربنا ليه على سكوتي، والتاني لما لقيت المدام فضحته وبهدلته وما خافتش على أكل عيشها قلت الرزق على الله.
فقالت سلوى غاضبة:
-يعني لولا أنا اتكلمت كان الكل هيفضل ساكت وراضي بسفالته وبيداري عليها؟
-والله أنا كنت جاية لأستاذ فريد قبلها أنبهه بس انتي كنتي أجدع مننا كلنا، سامحيني.
-ولو سامحتك ذنب باقي البنات هيفضل في رقبتك
زاد بكاؤها فقلت بهدوء وحزم في آن واحد:
-لو عاوزة تكفري عن ذنبك أشهدي بكل اللي شفتيه وحتى لو رفدوكي هاشغلك النهاردة في مكان تاني.
فقالت وهي تجفف دموعها بطرف كمها:
-أنا هاشهد حتى لو رفدوني عشان حق البنات وعشان ربنا يوقف لبناتي اللي يحميهم والرزق على الله.
استدعى رئيس الشئون القانونية سلوى للتحقيق فذهبت معها وقلت لها في الطريق لمكتبه:
-ماتخافيش انتي على حق وأنا معاكي
دخلت معها فرحب بي رئيس الشئون القانونية الذي كان زميل قديم وبيننا تقدير واحترام،وقال:
-من فضلك يافريد أنا عاوز اسمع المدام لوحدها،ويمكن وجودك يخليها تخاف تحكي كل التفاصيل، وياريت لو فيه حد عاوز يشهد او عنده معلومات يتفضل
نظرت لسلوى وقلت لها:
-هاستناكي بره وأحكي كل حاجه من غير خوف انتي صاحبة حق وأنا جنبك


خرجت وشياطيني تصور لي أن أقتل ذلك السافل الذي يستبيح أعراض الفتيات متناسياً أن لديه فتيات وقد يجدن من ينتهك أجسادهن.
انتهى التحقيق واصطحبت سلوى وغادرنا الشركة إلى بيتنا، وتوالت التحقيقات وتفريغ الكاميرات لمدة ٣ أيام حصلت سلوى فيهم على أجازة من الشركة حتى لا تعمل معه مرة أخرى.
وبعد انتهاء التحقيقات استدعانا رئيس الشئون القانونية وأخبرنا بإدانة المدير وتبرئة نجلاء لطفي سلوى خاصة بعد تفريغ الكاميرات وشهادة عدة فتيات ضده، لكنه طلب من سلوى التخلي عن فكرة تقديم بلاغ ضده حرصاً على سمعة أسرته التي ليس لها ذنب في دناءته، فوافقت سلوى. فُصل المدير من عمله مع خصم العديد من الحوافز والمكافأت الخاصة به كعقاب له، وصدر قرار بعمل سلوى معي في نفس المكتب.
عندما عدنا إلى البيت قالت لي بهدوء:
-مش عارفة أشكرك إزاي على وقوفك معايا
-من غير شكر انتي مراتي
فقالت بسخرية :
-قصدك بنت عمك
سكت ولم أجب فقالت:
-أنا قررت مش هاكمل في الشركة ولا في القاهرة كلها، لكن هارجع البلد وأدور على أي بيت قديم وأعمله حضانة للأطفال
-وليه تدوري؟ الجُرن اللي ورا بيتكم وبيتي، هنوضب الأوض القديمة ونعملها الحضانة
-بس يمكن اخواتي ما يوافقوش
-يبقى تاخدي الأوض القديمة اللي تبع بيتنا ونوضبها ولو احتجتي مساحة أكبر ممكن نبني كمان أوضة.
-بس هتاخد إيجارهم
نظرت إليها بعتاب ثم قلت:
-اعتبريني شريك معاكي بيهم
-اتفقنا خلينا نعمل التراخيص بأسامينا إحنا الاتنين.
-موافق وعندي محامي صاحبي هيخلص لنا الإجراءات.
في اليوم التالي توجهنا للشركة وقدمنا استقالتنا وحرصت على توظيف نهى عاملة النظافة في شركة أخرى بمرتب أفضل قبل أن أغادر وقلت لها:
-الرزق بإيد ربنا ما تخليش حد يكسر عينك
-الفقر والعوزة والحمل اللي في رقبتي كاسرين عيني من زمان
أعطتها سلوى رقم هاتفها وطلبت منها التواصل معها باستمرار.
عدنا لقريتنا وبدأت في إعداد المكان وطلاؤه وبمجرد حصولنا على التراخيص اشترينا المُعدات اللازمة وفرشناها وملأنا القرية والقرى المجاورة بالإعلانات، كما اختارت سلوى من سيعاونونها في العمل ، وفي اليوم الافتتاح حضر عدد كبير من أهل القرية لمجرد التعرف على ما نقدمه ويميزنا عن غيرنا.


انتهى حفل الافتتاح بحجز أكثر من مكان في الحضانة وسعدت سلوى بذلك وكنت حجزت للسفر في اليوم التالي فانشغلت مساءًا بإعداد حقيبتي وأوراقي وسط بكاء سلوى، ثم اصطحبتها في المساء لمكتب المأذون في المنصورة ليتم الطلاق. تركنا بمفردنا لعدة دقائق لعلنا نراجع أنفسنا، فلم تتوقف سلوى عن البكاء، فاقتربت منها ومسحت دموعها وقلت لها بكل الحب الذي أكنه لها:
-سلوى أنا صعب عليه فراقك أكتر مما تتخيلي، لكن أنا سايبك وأنا عارف إن دوري في حياتك انتهى ومن النهاردة هتبدأي مرحلة جديدة تاخدي فيها قراراتك بحُرية وتتحملي نتيجة اختياراتك، لكن اتأكدي دايما إني هاكون سندك مهما يحصل.
تعلقت بملابسي وقالت بوهن:
-ماتسبنيش
-مش هاسيبك هافضل جنبك وأي حاجه تحصل لك ولو بسيطة كلميني وهاتصرف
قبلتها في وجنتها ودخل المأذون وأكملنا إجراءات الطلاق، وعدنا لبيت عمي في صمت، ووقفت على بابه وقلت لها:
-أشوف وشك بخير يا سلوى خلي بالك من نفسك وماتتردديش إنك تكلميني في أي وقت.
لم تجب أو حتى تنظر إلي إنما دخلت البيت وأغلقت الباب دون كلمة وداع، فتألمت بشدة وأدركت أني خسرتها للأبد.

تعليقات
تطبيق روايات
حمل تطبيق روايات من هنا



×