الفصل السادس:
بقلم دينا ابراهيم
اتبعها طارق في صمت يحاول إيجاد سبب أو حل لتلك المعضلة حتى وجد نفسه داخل مكتب المأذون يقف أمامه عاجزًا عن
الفرار وكل ما يرغب به هو حملها واجبارها على تحمل حياتها معه ولكنه لن يكسر كبريائه ورجولته أمامها أكثر من ذلك ويشعرها بنشوة الانتصار، يكفي أنها تجره جرًا للتخلص منه.
تجاهلت خديجة نظراته القاتلة نحوها وحاولت تمالك الخوف الذي يتملكها لا تصدق أنها على وشك الانفصال عنه نهائيًا لكنها
امتهنت الشجاعة فبعد كلماته القاتلة في الأسفل ترفض أن تحط من شأنه من جديد، فقائلة في حدة بينما تجلس أمام المأذون:
-السلام عليكم يا شيخ، لو سمحت عايزين نتطلق!
-انتي ليه محسساني انك بتطلبي شاورما!
اندفع "طارق" المغتاظ في تهكم فتجاهلته كما تتجاهل عنفوان المشاعر
المختلطة داخل صدرها وهي تثبت انظارها فوق المأذون الصغير نسبيًا في السن وهزت رأسها في تهذيب عندما رد السلام قبل ان ينقل نظراته بينهما في ريبة مضيفًا:
-طلاق مرة واحدة، طيب أقعدي نتفاهم واطلبلك حاجة تهديكي عشان نفكر من غير تسرع، انتوا عارفين أن الطلاق.....
قاطعته "خديجة" مؤكدة:
- عارفين عارفين وواخدين القرار معلش طلقنا على طول!
مرر المأذون بصره فوق طارق الصامت والذي يستند بكفه فوق وجنته مبعدًا أنظاره عنهم فسأله يحاول خطف الحديث من فمه:
-وأنت أيه رأيك يا استاذ!
لم يجيبه "طارق" وظل يطالع الفراغ في صمت، فأعاد المأذون نظره إليها في توجس وقبل أن يترجم سؤاله هتفت متذمرة في زوجها:
-متأسفة هو بني آدم قليل الذوق مش أكتر، طلقنا احنا متفقين خلاص!
تعجب الرجل وهو يحاول سرقه الكلمات من طارق، حتى مل من الموقف الذي لم يوضع فيه من قبل، فهب قائلًا:
-إذا كان كده براحتكم، معاكم البطايق والشهود؟
هنا تحرك "طارق" ناظرًا إلى المأذون بفم مفتوح متهمًا الرجل في تهكم:
-أنت ما صدقت ولا أيه يا شيخنا، لو مزنوق في قرشين قولي!!
كاد يجيبه الرجل المنزعج من وقاحته الفجة، فقاطعته "خديجة" أسفة تحاول ردم ذلك الشعور الأحمق بالأمل المتولد داخلها من أفعاله:
-أنا بعتذرلك بس ارجوك كمل الاجراءات،
هو بيعمل ده كله عشان يتهرب من الموقف وميعترفش بغلطته!
تعمدت زمجرتها في قوة إلا أن صدرها كان يأن بتوسل له للاعتراف بخطئه والاعتذار أو افضل أن يعترف برغبته في التمسك بها وحبه لها ولكن الأرعن الغاضب تمسك بعناده هاتفًا في تعنت:
-انا مغلطش، الدور والباقي عليكي اللي مش عارفة نفسك موديانا على فين...
ثم أخذ يرمق المأذون الشاب في حقد قبل أن يتهم في اعتراض:
-وبعدين ده مأذون صغير في السن يعني كده الطلاق لا يجوز على أيده!
هنا تدخل المأذون الغاضب من إهانته الغير مبرر لها، متعمدًا الرد على استفزازاته:
-لا تقلق يا سيدي، هنا الطلاق جائز...
إلا طلاق المعتوه!
كاد ينفجر فيه "طارق" متعمدًا الشجار معه ولكنها تدخلت فيما بينهم هاتفة في نفاذ صبر:
-اقعد مكانك لو سمحت كفاية،
اتفضل البطاقة يا شيخ بس مش معايا شهود.
-خلاص نمشي ونبقى نجيب شهود يوم تاني!
قال "طارق" وهو يستقيم من مكانه فتحركت تعكس حركته قائلة من بين اسنانها:
-لا انزل جيب شهود من الشارع، اي حد معدي!
عقد ذراعيه لا يجد مفر امامه سوى العناد فرفض متذمرًا:
-انا مالي انتي اللي عايزة تطلقي، انزلي هاتيهم أنتي!
اتعست عيناها في غضب وذهول من أفعاله، تحاول التشبث بالعقلانية متجاهلة قلبها القافز بين ضلوعها والذي يرى تعنته نابع من رفضه لفكرة تطليقها وانه يتمسك بها بطريقة غير مباشرة لكنها أصرت على استكمال الأمر في عناد:
-تصدق وتأمن بالله أنا هنزل اجيب شهود فعلًا.
أوقفها صوت المأذون المساند لها وهو يخبرها في طلاقة:
-متتعبيش نفسك عندك البقاله اللي تحت هتلاقي شابين غلابه قوللهم الشيخ باعتني، وابقي راضيهم بأي حاجة بعدين!
تحرك رأس "طارق" نحوه في سرعة وذهول، متعجب من هذا المأذون الذي لا يؤدي مهام الشريعة ومحاولة الصلح بل على العكس يبدو له سعيدًا للغاية إنه على وشك تطليقها منه.
ضاقت عيناه في تهديد عندما التقى بعيون الشاب المتحدية ثم أبعد أنظاره يتابع جسد زوجته المبتعدة لخارج المكتب في خطوات
متعبة، استقام متجهًا خلفها نحو الباب يتأكد من اختفاءها للأسفل ثم استدار نحو الشاب بعيون لامعة قائلًا في نبرة خافتة تنذر بالشر:
-قولتلي بقى يا شيخ، الطلاق جائز إلا طلاق أيه؟
-إلا طلاق المعتوه!
قال المأذون شاعرًا بالتوجس خاصة عندما أغلق "طارق" الباب ثم انفرجت ملامحه عندما سمعه يخبره وهو يشمر عن ساعديه:
-حلو، وأنا في العته معنديش يامى أرحميني!
*****
بعد دقائق قليله صعدت خديجة على الدرج بقلب يدق في رعب دون توقف، متسائلة هل جازفت أكثر من اللازم، هل انتهى حبها في
قلبه للدرجة التي تجعله يوافق على التخلي عنها ، حركت رأسها تنفض تلك الأفكار القبيحة فماذا تريد منه أكثر بعد أن وصفها بعدم الكرامة؟
جزت على أسنانها في عناد، هو يراها عديمة القيمة والكرامة وأن كان طلاقها سيثبت له مقامها وقوتها هي لن تتنازل حتى تحصل عليه!
التفتت نحو الشابان هامسة في امتنان:
-أنا بجد بشكركم جدًا انكم وافقتم تساعدوني وأنا ان شاء الله هر....
قطع حديثها صوت خبطات وصراخ على الدرج، فركض الجميع للأعلى ليقابلهم المأذون الشاب في حالة لا يحسد عليها يحاول تخطيهم للهروب فحاولت خديجة ايقافه متسائلة في ذهول:
-حضرتك رايح فين، والطلاق!
-لا يجوز....لا يجوز...!
كادت تصرخ من شدة الانفعال والجنون لكنها صعدت في خطوات ثابتة لتقابل زوجها الخارج من المكتب حاملًا العمامة الخاصة
بالمأذون، قبل أن يرميها سريعًا من يده مدعيًا البراءة، لكنها هتفت في وجهه متهمة إياه:
-أنت عملت أيه!
حرك كتفيه في استسلام مؤكدًا:
-انا مالي، هو اللي شكله مجنون لقيته قام يجري على تحت لوحده.
-وأنا المفروض أصدقك مش كده.
استطردت من بين أسنانها فعقد ملامحه في انزعاج وملل مردفًا:
-بقولك أيه أنا اتقفلت ومبقتش في المود لطلاق، حد أنا عندي شغل،
روحي البيت وأنا هبقى أطلقك غيابي بعدين!
وبذلك تركها متحركًا للأسفل يشكر الله انه استطاع النفاذ من بين براثن رغباتها الجامحة، أما هي فوقفت عاجزة عن التعبير ما بين
الصراخ في جنون وتقطيع ملابسها أربًا، لاعنه اليوم الذي اوقعها حظها فيه وفي شخصيته الجنونية!
*****
بعد مرور أسبوعان مرا كالدهر على الجميع، وانقلب فيهما المنزل رأسًا على عقب بسبب تصرفاتهما حيث تعمد فيها الطرفان قتل بعضهما الأخر والتراشق بالكلمات بالإضافة إلى ثبات "
خديجة" على موقفها بضرورة الطلاق إلا أن هروب طارق المستمر منها تحت أي ظرف خشية أن تطالبه بالطلاق من جديد يلعب على
أعصابها وقد وصلها تصور خاطئ إنه يهملها لأنها بلا قيمة أو كرامة في نظره وبالتالي يستبيح رغباتها.
كالعادة وصلت من العمل على امل الالتقاء به كي تطالبه بالإسراع في خطوات
الانفصال، فكبريائها لم يبرد منذ القى بكلماته الحارقة على مسامعها واتهامه لها بانعدام الكرامة، استقبلتها "مرام" فسألتها ما أن ألقت السلام:
-أخوكي هنا؟
سمحت لها "مرام" بأن تحمل صغيرتها منها إلى احضانها قبل أن تخبرها في ملل:
-يا بنتي وحدي الله، ما الحياة كانت ماشية!
أخبرتها شقيقته واتجه كلتاهن للجلوس، وما ان استقرت "خديجة" قبالتها حتى أجابتها في نبرة يشوبها الحزن:
-لا يا مرام من هنا ورايح مش هقبل أن الحياة تمشيني وخلاص،
هي ماما مش هنا ولا أيه؟
سألت تحاول تغيير الموضوع وهي تلتفت حول المكان بحثًا عن المرأة.
-دخلت تاخد شاور عشان لسه مخلصه الأكل.
ردت "مرام" في تعاسه واضحة تنبثق من عيناها غير راضيه على ما تأول إليه الأحداث في حياة شقيقها وزوجته.
أما في الداخل كان "طارق" يعض على لسانه من شدة الغضب على الذات وتمنى لو يستطيع صفع وجه بنفسه لأنه سمح للنوم بأن يسرقه ولم ينتبه للمنبه الذي يحرص على تفعيله كي يستطيع الهروب كعادته قبل مجيئها.
أخذ شهيق طويل متبعة بزفير أطول يحاول المحافظة على رباطه جأشه والتفكير في هدوء ثم اتجه بعد لحظات يرتدي حذائه متمتمً:
-أنا هعتمد على الوش الخشب، اخوفها قبل ما تنطق وأهرب!
حرك رأسه في خيبة أمل لا يريد البدء في جلد الذات عن كونه السبب الأساسي الذي جعلها تتمسك بالطلاق بعد كلماته الحقيرة ولكنه شخص اندفاعي يميل للترهات وقت الغضب!
جذب أنفاسًا متتاليه وهو يرسم خطة هروبه في عقله قبل أن يلبس قناع البرود فوق وجهه ويتجه للخروج متعمدًا تجاهلها وعدم النظر إليها خاصة عندما استقامت صائحة في محاولة لإيقافه، فأجابها في لا مبالاة من خلف ظهره دون ان يتوقف:
-لما أرجع عندي شغل!
نظرت إلى "مرام" في غل من تصرفات شقيقها قبل أن تندفع نحوه قاطعة طريقه بينه وبين الباب المغلق مزمجره:
-شاطر أنت كده وأنت مش مدي قراراتي اهتمام، فخور بنفسك.
-يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم،
بقولك أيه أنا مش فايقلك على الصبح انتي والنقص اللي عندك ده!
-نقص!، يعني مش بس شايفني عديمة الكرامة أنت كمان شايف ان عندي نقص!
حاول إمساك لسانه مقررًا عدم الحديث فكلما فتح فاهه معه يقع في مصيبة أكبر وينتقل من سيء إلى أسوأ بلا أي جهدًا يذكر، يحاول تخطيها لكنها زادت من تعنتها واستندت فوق الباب وهي تثبت صغيرتها فوق صدرها، هاتفه في اصرار:
-طلقني يا اما هترجع مش هتلاقيني!
-أيه هنرجع لاسطوانة أنا راجعة لأهلي من تاني؟
قال في نبرة جامدة يحاول السيطرة على غضبه لكنها ابتسمت في تحدي مؤكدة:
-أروح لأهلي ليه وأنا مشلوله؟!
أنا لقيت شقة مناسبة جنب الشغل بتاعي وقررت أني هاخد عيالي وهمشي من هنا وانهارده.
جذبها نحوه من مرفقها في عنف متجاهلًا إنها تحمل "أيتن" الصغيرة التي بدء تشعر بالتوتر الزائد بين والديها فزادت من خفض رأسها في عنق والدتها، إلا أن طارق صرح في حفيف منخفض:
-أنا ساكت على جنانك من زمان بس لحد هنا وخلاص،
عيالي مش هيطلعوا من بيتي ولا هيروحوا على أي مكان، عايزة تمشي من بيتي يبقى تمشي لوحدك!
ضاقت انفاسها في صدرها وقد أستقر تهديده القاسي داخل صدرها لكنها حاربت في إقدام وإصرار:
-عيالي هيروحوا معايا المكان اللي هروح فيه ولو فاكر انك هتمنعني عنهم يبقى بتحلم!
دفعته عنها ثم التفتت إلى أنس الذي يوشك على البكاء والمختبئ في صمت خلف ساق عمته، خطت نحوه تجذبه نحوها وكأنه سيتبخر ان تركته بعد تصريحات زوجها.
حاولت الخروج من المنزل إلا أن "طارق" اوقفها ممسكًا بذراع أنس غير سامحًا لها بجر طفله هاتفًا في غضب حقيقي:
-سيبي الولد قولتلك عايزة تمشي، تمشي من غير عيالي!
صرخت به "خديجة" تحاول إبعاده عنها في جنون وقلب الأم يدق ناقوس الخطر، فصاح بها يوازي جنونها غير منتبهين لصراخ "أنس" الذي يبكي في هستيريا ويشعر بأن الأرض تنشق من أسفله بمشاهدة والديه في هذه الحالة.
زاد جنونهما حتى انها تجرأت على ضرب يد طارق الممسكة بطفلها تكاد تمزقها بأظافرها :
-سيب أبني، دول عيالي أنا!
زادت في هجومها وكانت كالمغيبة لا تنتبه إلى صراخ "أنس" او "أيتن" الذي هالها جنون الوضع في أسرتها وانهيار أخيها فشاركته تلقائيًا البكاء.
-كفاية اسكتوا كفاية!!
جلجل صوت "سهيلة" المكان ما ان خرجت من الحمام مرتدية ملابسها فوق جسدها المبلل، لا تصدق جنونهما الذي وصل إلى أقصاه، ركضت نحو حفيدها الصغير تحتضنه في صدرها هاتفة فيهما باتهام:
-خلاص بقيتوا معدومين الأحساس، حيوانات عايزة تاكل في بعض ومش حاسسين باللي حواليكم!
بس يا بابا أهدى يا حبيب تيتا مفيش حاجة هتحصل!
وجهت جملتها الأخيرة لأنس الذي تتقطع انفاسه من كثرة البكاء، فرك طارق فوق جبينه يشعر بأن غضبه يسوقه نحو الفشل لأنه كان السبب في انهيار طفله، فقال يشعر بتأنيب الضمير :
-أهدى يا أنس يا حبيبي، أنت مش هتمشي من هنا متعيطش!
-متخافش يا حبيبي أنت هتفضل عايش معايا.
حاولت "خديجة" الاقتراب فلكزتها "سهيلة" تبعدها عن حفيدها قبل ان تنظر لهما شزرًا، باصقة كلماتها في خيبة أمل:
-أنتوا حقيقي فاكرين ابنكم منهار عشان عايز يعيش مع حد فيكم مش مع التاني؟
انتم أهل أنتم، انتم مسئولين انتم، لا مستحيل أنتم حتى مش حاسيين بالنعمة اللي ربنا كرمكم بيها ومبهدلين العيال معاكم.
صمت كلًا من الزوجين عاجزان على الرد وكلماتها تضربهم كأبوين في مقتل لكنها لم تكتفي ورفعت ذقن حفيدها تتساءل في حنو بالغ:
-أنس يا حبيبي، أنت بتعيط عشان عايز تعيش مع ماما ولا مع بابا!
هربت من عيناها قطرات متتالية يشعر بالخوف من أن يلتقط انظار ابويه فيشعر بخيبة املهم من اجابته، فرغبته مختلفة مكروهة بالنسبة لهم لكنه همس في خفوت طفولي:
-عايز أعيش معاهم الاتنين سوا، مش عايز أبعد عن أي حد منهم أنا بحبهم الاتنين أوي.
انهى جملته ثم انهمر في البكاء يختبئ في صدر جدته التي تحارب ذرف دموعها قبل ان تحول سوداوية نظراتها إلي طارق تليه خديجة قائلة في حرقة:
-انت لا تعيش مع بابا ولا تعيش مع ماما، أنت تفضل في حضني انا دول ما يستحقوش دمعه من عينك او انك تقولهم بابا وماما،
دول همج ورعاع لايقين على بعض!
رفعت حفيدها بين ذراعيها رغم ثقل وزنه قبل أن تصرخ في أبنتها آمره:
-هاتي البنت من أيدها ودخلهالي جوا!
اتجهت "مرام" تحمل الصغيرة منها وقد سهل مهمتها التيه المسيطر على "خديجة" التي وقفت بينهم مهتزة غير مدركة لما يدور حولها.
-وانتوا اتفضلوا....
قالت "سهيلة" وهي تدفع ابنها وزوجته في آن واحد نحو الباب هاتفة:
-برا، كملوا خناق برا مش في بيتي ومش قدام أحفادي، برا....
تحرك كلاهما مع دفعاتها دون أي مقاومة حتى أغلقت الباب في وجهيهما، وقف الاثنان يطالعان الباب كالمغيبين وقد نجحت كلماتها وما حدث في جمع هموم العالم وألقائه في قسوة فوق اكتافهم.
تحرك اولًا واتجه نحو الدرج في خطوات بطيئة يجلس فوق أحد درجاته، بينما ظلت هي تنظر للباب وكأن ما حدث كان كابوس وسينتهي في أي لحظة، زفر "طارق" واخرجها صوت استغفاره من ثباتها فوجدت نفسها تلتفت حول نفسها ثم تحركت في بطء شديد نحو الدرج مستقرة في هدوء بالغ إلى جواره.
كان الاثنان ينظران للأرض في خجل تلميذ ألقى عليه القبض مذنبًا وترك وحيدًا كي ينال العقاب، ساد الصمت طويلًا قبل أن يدير "طارق" رأسه نحوها متسائلًا في نبرة منخفضة خجلة:
-بوخنا أوي مش كده؟
هزت رأسها للأعلى والأسفل لا تزال تنظر للأرض وكأنها تحفرها مستخرجة الذهب الأسود، مرت ثوان قليلة قبل أن يشق الهدوء من حولهم صوت بكاءها، رفعت كفيها تخفي وجهها وتركت قلبها الممزق يفرغ شحنته فقد شهدت للتو فشلها ونتائج قراراتها الأنانية.
-أنت عندك حق، أنا أم مهملة وفاشلة، أنا السبب في اللي بيحصل لولادي ده.
أغمض "طارق" جفونه في حزن وذنب قبل أن يرفع كفه يربت فوق ظهرها في حنان واهتمام حقيقي مؤكدًا لها:
-الغلط مش عندك، أنتي عملتي اللي عليكي وزيادة، انا السبب في كل اللي بيحصل ده،
لو اعترفت بغلطتي زي الخلق من الأول مكناش وصلنا لكل ده!
مالت في بطء وسط بكاءها تستند برأسها فوق كتفه هامسة في إرهاق حقيقي وأنفاس متقطعة:
-وأنا اللي فضلت اعاند واولوياتي اتهزت مع اول مطب.
-صدقيني يا خديجة، أنتي احسن ام وزوجة ممكن انسان يتمناها.
صمت لوهلة يحاول ترتيب افكاره قبل أن يحيط بذراعه حول كتفيها يثبت رأسها في صدره معترفًا بما يجول في نفسه:
-أنا بعتذر على الكلام اللي قولته، أنا عارف اني جرحتك بس انا مجنون بيكي واللي حصل مني ده كان رد فعلي تلقائي لما حسيت انك هتفلتي من إيدي،
مكنتش عايز أضعف أنا الأول واتراجع وفاكر اني هضعفك لو جيت عليكي وبينت اني مبقتش بحبك،
كنت فاكر أنك بالطريقة دي مش هتقوي عليا وهترضي ترجعيلي.
-وأنت زعلان عشان يوم ما لقيت قوتي خدتها من حبك ليا!
رفعت رأسها تخبره في نبرة حزينة مليئة بالعتاب، فزفر من جديد في خجل من التخبط الذي تملك أفعاله السابقة مؤكدًا في صوت أجش تغلب عليه مشاعره:
-أنا عارف أنك كنتي رامية الدنيا وكل حاجة بتحصل بينا في ملعبي عشان متأكدة اني بحبك ومستحيل اتخلى عنك،
كنت حاسس بغيرة وحقد وضعف انك مرتاحة البال وانا بس اللي النار بتنهش في قلبي ليل ونهار.
حرك أنامله في بطء يطبق على كفها في خجل قبل أن يرفعه ويطبع فمه عليه في قبلة حانية مشبعة بتأثره هامسًا:
-أنا أسف على كل حاجة خليتك تمري بيها!
ارتعشت شفتيها تشعر بأن الحياة تدب من جديد في أوردتها مستشعره كلماته وهمساته واعترافاته داخل وجدانه ثم همست في تلقائية صادقة:
-أنا كمان أسفة أكتر مما تتخيل.
تعلقت نظراتهم الحزينة ببعضهما طويلًا فقد تمادى كلاهما في العناد متناسيين أن العنيد هو أول الخاسرين، انقطع الوصال بينهما عندما انفتح باب شقة والدته، فجذب كلًا منهما يده بجواره بأعين متسعة كالمذنبين، كلاهما يشعر بالخجل من ذويه بعد ما حدث في الداخل.
-ماما مستنياكم جوه وبتقولكم اللي صوته هيعلى هتطلع روحه بإيدها هي ما صدقت تهدي العيال.
أخبرتهم "مرام" وهي ترمقهم بنظرات غاضبة، فاستقام "طارق" أولًا وهو ينظف حلقه قبل أن ينظر إلى خديجة المضطربة
ويمد كفه نحوها، تنهدت "خديجة" مخرجة انفاسها المهتزة ثم بثقه عالية مدت ذراعه تاركه له جذبها حتى تستقيم!