الفصل الرابع:
بقلم دينا ابراهيم
أغلقت "خديجة" باب الشرفة بإحكام وهي تدعو الله أن لا يكون طارق قد اكتشف ، قبل أن تنظر
بتأنيب إلى صغيرها الذي يطالعها بعيون ناعسة متسائلة عن سبب اختفاءها من الفراش فتنهدت قبل أن تربت على رأسه هامسة:
-يلا ننام يا حبيبي.
رفعته بين ذراعيها رغم ثقل وزنه إلا أنها تحتاج لقربه في هذه اللحظة، دثرته ما أن استلقيا فوق الفراش
وضمته في حنان تحاول نسيان ومحض أحزانها وألأمها من خلال مشاعر بالأمومة.
مر وقتً طويل عليها دون أن يختطفها النوم فعقلها اليوم مصر على فتح
الجراح والغرق في المآسي، لتستسلم في النهاية تاركة له الرجوع والغياب فيما حدث بينها وبين زوجها مشعلًا الفجوة بينهما.
***
تأففت "خديجة" وهي تنظر للساعة ثم أجابت على سؤال "مرام" المتكرر:
- للمرة المليون بقولك القماش تحفة، أرجوكي خلصي هموت من الجوع!
-حاضر حاضر أهدي عليا.
اجابتها في انزعاج وعادت تنغمس بين الأقمشة، فضغطت خديجة فوق جفونها تحاول استرجاع طاقتها قبل أن يصل لها صوت وصول رسالة نصية، رفعت
الهاتف في ملل تفتحها واتسعت عيناها وهي تقرأ الرسالة المرسلة من حسابهم
البنكي المشترك يخبرونها بأن بطاقة الائتمان قد سحبت منذ لحظات في مكان قريب من هنا.
-مرام الحقيني!
وضعت يدها فوق فمها، لابد أن أحدهم سرقها فزوجها اخبرها بوجوده في مشروع
هام بعيد كل البعد عن هنا، اقتربت منها "مرام " المتسائلة في نبرة قلقه:
-أيه مالك؟
-الفيزا اتسحب في "..." وطارق مش هنا اصلًا، أنا لازم اتصل بيه.
حاولت الاتصال به عدة مرات ولكنها قوبلت بالتجاهل وعدم الرد فاستقامت تجذب حقيبتها مقررة في عزم:
-لا الموضوع ما يتسكتش عليه ابدًا، أنا رايحه المول حالًا.
جذبت" مرام" حقيبتها هي الأخرى راكضة خلفها، مشيرين لأول سيارة أجرة قابلتهم على أمل الوصول هناك في أسرع وقت.
في نفس الوقت كان طارق يخبط كفه فوق رأسه في غصب وكل مخططاته تسحب من أسفل قدمه.
-طارق!
استدار في سرعة شديدة عندما وصله صوت مناداه "ميري" له على الطرف الآخر من الطريق حيث تقف
أمام البناية، خرج منه لفظ بذئ قبل أن يجبر نفسه على التقدم في بطء نحوها متابعه لها تتحدث على
الهاتف وما ان وصل إليه سمعها تخبره وهي تحرص على كتم هاتفها:
-انا مش ورايا اليوم كله، ممكن تطلع تكمل قياس عشان نمشي.
وقف حائرًا أمام المبنى لا يدري ماذا يفعل في تلك المصيبة ولكنه وقف مكانه تاركًا لها تتحدث طويلًا عبر الهاتف حتى أغلقته ووقفت أمامه عاقدة ذراعيها فوق
صدرها متذمرة في نبرة خافته وكأنها تتألم:
-الشمس تعبتني وبدئت أحس بدوخه، ممكن نطلع ؟
حاول فحص ملامحها وقياس مدى صدقها لكنه حاول حظه مرة أخيرة:
-أنا شايف نستنى حسام، أنا فعلًا مش بركز وأنا جعان!
انكمشت ملامحها في غضب قبل أن تقبض على ذراعه معترضة وهي تجره جرًا:
-تعالى على نفسك واستحمل.
تركها تجذبه بعد عدة محاولات منها وقد جذبا أنظار المارة إلا إن حدسه يخبره بأن ذلك سيكون أكبر خطأ يرتكبه في حياته.
اتجهت "خديجة" في خطوات سريعة نحو المول حيث الماكينة تحاول معرفة مكان
المكتب الخاص بالمسئولين عنها أو حتى وجود رجل الأمن، تاركة لمرام مهمة
حساب سائق الأجرة الذي نجح في إيصالهم في أقل من خمسة عشر دقيقة.
التفت حولها بحثًا لكنها تجمدت في مكانها بفم مفتوح تتابع المشهد الدائر على
بُعد أمتار منها عاجزة عن تصديق أن زوجها الكاذب يقف هناك على الرصيف المقابل للماكينة، ومعه تلك الشمطاء التي تستبيح لنفسها
إمساك زوجها بتلك الطريقة الغير مقبولة وجره خلفها داخل إحدى المباني السكنية، خرجت من صدمتها ما ان اختفيا عن مرماها وتحركت اخيرًا نحو البناية متمتمة في جنون:
-هو ده اللي مش هكون هنا يا طارق بتضحك عليا !
أتاها صوت "مرام" الراكضة خلفها وقد وصلت بجوارها منذ قليل لتتابع ما حدث، فحاولت تهدئتها:
-استني بس يا خديجة يمكن في شغل!
خرجت منها ضحكة هستيريا دون اجابه ثم صعدت تحاول معرفة أيً من تلك الأدوار سيكون زوجها فيها ولكنها لم تحتار كثيرًا عندما وصلت الطابق الثاني، ووقفت تجز فوق أسنانها حتى كادت تنكسر منها وهي تتابع الأيادي المتشابكة المتراقصة فوق إطار أحد البيبان أمامها، مميزة يد زوجها الخائن على الفور.
في الداخل وخصيصًا خلف باب الشقة أمسك "طارق" في إطار الباب من خلفه في عناد مطالبًا:
-لا، نسيب الباب مفتوح!
-أيه ده أنت خايف مني يا "شيغغي"؟
( chéri كلمة فرنسية بمعنى محبوبي )
-لا طبعا، اصل ... أصل أنا صعيدي ودي الأصول.
أجابها في نبرة مرتبكة متوترة لكنها وضعت كفها فوق كفه الممسك لإطار الباب ودفعته بجسدها في مجون نحو جسده تحاصره بينها
وبين الباب ثم استقرت بأنفها في عنقه هامسة في نبرة مليئة بنشوة مرضية:
-كفاية لعب يا طارق، أنت عارف أني بحبك مش كده!
-يا مدام مينفعش، حضرتك عارفة أنا متجوز!
أخبرها بأنفاس متقطعة يحاول في عبث وقف أصابعها الوقحة المتنقلة فوق صدره لكنها استكملت في قوة:
-بس مراتك مش هتديك مركز أكبر في مكتبي ولا هتحققلك كل اللي بتحلم بيه!
-أرجوكي يا مدا....
همس متوسلًا فقاطعته تحاول وضع فمها فوق فمه رغم مقاومته الجادة وهي تهمس في وله:
-أنت اللي ارجوك حس بيا يا "شيغغي" متخلنيش أتوسل أكتر من كده ... آآآه....
خرجت منها صرخة مخيفة عندما انقطع حديثها مع دفعة قوية للباب حشرت جسديها بينه وبين الحائط الصلب قبل أن تدخل تطل عليهما امرأة يبدو عليها الجنون صارخة:
-بتخليها تتوسل ليه يا "شيغغي"، انت ما بتحسش!!
وقبل أن تخرج "ميري" من صدمتها وتتوه في تفسيراتها عن ماهية المرأة تحدث "طارق" في نبرة مرتعدة:
-خديجة انتي بتعملي أيه هنا؟!
-حظي الحلو عشان اشوفك بعيني يا خاين يا غشاش!
-أنتي فاهمة غلط، اسمعيني وانا هفهمك!
حاول طارق شرح الموقف لكنها صرخت فيه مشمئزة:
-أفهم أيه، قولي بتخوني يا طارق!!
مع مين الخنشورة دي!
انهت جملتها وهي تلقي بنظرات حارقة نحو جسد ميري من أعلاه لأسفله:
-ازاي تتجرئي!
ردت "ميري" في حدة واستنكار لا تزال في حالة ذهول من تدخل "خديجة" المفاجئ لكنها زادت من درجة ذهولها عندما تقدمت المجنونة منها مزمجره:
-أنا هوريكي الجراءة بصحيح يا بنت بياعة الجزر!
أنهت "خديجة" جملتها وهي تخلع حذائها وتنهال بالضرب على الوقحة سارقة الرجال دون التفات إلى اصواتها المستغيثة أو محاولات طارق المستميت لوقف ضرباتها وضربات شقيقته "مرام" المغتاظة والتي تدخلت تشاركها نفس عنفها كنوع
من أداء الواجب نحو صديقتها، فصرخ في كلتاهما بينما يحمل خديجة نحوه مانحًا "ميري" فرصة للفرار إلى الخارج:
-الله يخربيتكم هتودونا في داهيه!
ابتعدت عنه "خديجة" في عنف وكأن لمسته أحرقت جلدها ثم قالت في صوت عالي مشمئز وسط أنفاسها المتقطعة:
-أبعد إيدك عني يا حيوان!
-خديجة وطي صوتك بلاش فضايح،
محصلش حاجة انتي فاهمه غلط!
حاول "طارق" التبرير لكنها دفعته في حدة قبل أن تتجه غاضبة للخارج وعلى لسانها كلمة واحد لا تتوقف:
- طلقني!!
***
خرجت خديجة من ذكرياتها عندما علا صوت "أيتن" المستيقظة جوارها مطالبة ببعض الماء، ناولتها الكوب الموضوع فوق الطاولة جوارهم
قبل أن تعيده وتراقبها تنزوي في احضانها أكتر كي تعود للنوم، تنهدت في إرهاق نفسي وجسدي، كان عليها التمسك بقرارها بالطلاق بدلًا من تعذيب ذاتها هكذا.
-الله يسامحك يا ماما سهيلة!
همست وهي تتذكر كيف احتوتها عندما حضرت لها غارقة في دموعها وكيف زمجرت في وجه طارق تحميها منه وتبعده عنها، لكنها تناست انها والدته في الأخير وانها ستبحث عن مصالحه قبلها.
فقد نجحت والدة طارق في اقناعها بالعدول عن رأيها متهمة إياها بالسذاجة والتسرع، بالإضافة إلى استخدامها كافة كروت الابتزاز
العاطفي ضدها مع اقتراب زفاف مرام الذي كان يتبقى عليه أيام قليلة واتهامها بأنها ستسرق فرحتها ان أخذت احفادها بعيدًا عنها في مثل هذا
اليوم، واعدة إياها انها ستحقق لها ما تريد بعد انتهاء الزفاف وانها ستعيدها إلى منزل
والديها الموجود بأحدي القرى في جنوب مصر بنفسها!
ابتسمت "خديجة" في سخرية كانت خدعة ذكية فبعد انتهاء الزفاف وقفت "سهيلة"
تغرقها بكافة الأسباب التعجيزية التي تحول بينها وبين الابتعاد عن هذا المنزل وخارج كنفهم.
لن تلوم المرأة العجوز فما فعلته كان بدافع الحب والخير، فهي جدة لا ترغب في
فقدان حفيديها وأم لا تود خراب بيت أبنها ولكنها مزقت قلب "خديجة" بفعلتها دون قصدً منها وجعلتها تفكر وتعيد ترتيب حياتها.
***
في اليوم التالي على زفاف ابنتها جلست "سهيلة" ترتسم الجدية فوق ملامحها موجهه حديثها إلى "خديجة" في عدم رضا:
-انتي بتخربي بيتك بإيدك، طالما مخانكيش بتسبيه ليه؟
-بسيبه عشان قرفانه يا ماما، قرفانه منه ومن نفسي ومن الدنيا!
أخبرتها في نبرة صادقة وهي تكفف وجهها من دموعها التي تسيل كلما تذكرت ما رأته.
-طيب ممكن تفكري بعقل شوية، دلوقتي لما تطلقي مين هيصرف على العيال.
نظرت لها "خديجة" في عدم فهم متسائلة:
-ليه وابوهم مش عايز يصرف عليهم؟
أبعدت "سهيلة" نظراتها متعمدة وهي تخبرها بملامح مبهمة:
-والله الرجالة ملهاش امان وابني عنيد وبيحبك يعني توقعي أي حاجة!
وقف "طارق" الذي يعارض بوجوده تنبيهات والدته يستمع لكلامها القاسي في عدم تصديق وكاد يتدخل شاعرًا بالإهانة لكنه قرر الانتظار خوفًا من رد فعل زوجته ان علمت بوجوده في
المنزل ولكنه لم يستطع الانسحاب فشاءت أم أبت الأمر خاص بكلاهما وعليهما
الجلوس ومواجهة الأمر سويًا، انتبه لصوت والدته التي استغلت صدمة "خديجة" مستكملة:
-انتي هتظلمي عيالك لما تبعديهم عن أبوهم عشان غلطة ممكن اي حد يتحط فيها،
وبتظلمي ابنك عشان تاخدي من مدرسة في المستوى ده وتودي مدرسة في قرية ده لو لقيتي مكان لي هناك!
انعقد حاجبي "خديجة" مستشعرة بالإهانة لأول مرة منذ دخلت منزل تلك العائلة، وهمت مدافعة عن أصلها:
-وملها القرية، ما أنا اتعلمت فيها احسن تعليم واتربيت أحسن تربية،
على الأقل مش أنا اللي كنت بخون جوزي!
انهت جملتها في حدة مشيرة إلى أخطاء ابنها فأسرعت "سهيلة" تهدأ الوضع وتنكر ما وصل إليها:
-أنا مقصدش طبعًا، ومكنتش هلاقي احسن منك لأبني، أنا بس بديكي مثال عن اللي هيفقده ابنك،
وغير ده كله انتي مش بتشتغلي وعمرك ما اشتغلتي تقدري تقولي هتتصرفي ازاي على نفسك والعيال ده معاش أبوكي يادوب مكفي علاجه هو وأمك.
أخفضت "خديجة" بصرها وقد أغرقتها كلماتها في قهر فعلي، شاعره بالعجز مع أول مصيبة تلقتها من مصائب الحياة، فكل ما تخبرها به "سهيلة" حقيقي وواقع ولكن سماعه منها جعل قلبها يعتصر وينزف، وجعلتها تفكر متسائلة:
هل هذه نظرة "طارق" فيها، انها ضعيفة قليلة القيمة والمكانة؟
هل لهذا استباح لنفسه ملاعبتها دون مراعاة لمشاعرها؟!
قطع حزنها دخول "طارق" الذي لم يتحمل إهانات والدته المبطنة أكثر، وعكس ما توقع لم تتحرك "خديجة" ولم تعترض على تدخله ووجوده، فقد استمرت في الجلوس هكذا كالمغيبة.
رمشت تبعد الضباب عن عينيها اللامعة بدموعها غير قادرة على النظر نحوه أو نحو والدته .. فقد تم كسرها بنجاح!
-ماما بعد اذنك سبينا شويه!
طلب في إصرار وبعد مشاحنات بينه وبين والدته القلقة من افساده لمخططها الناجح حتى الآن، ذهبت وتركتهما سويًا، فبدء طارق الحديث سريعًا وقد هالهُ الضعف المرتسم على وجهها:
-خديجة أنا بحبك ومستحيل أطلقك لأني ببساطة مش هقدر أعيش من غيرك،
بس لو حصل تحت أي ظرف واتطلقنا، أنا عمري ما هشيل أيدي من مسئوليتك أنتي وولادي ومصاريفكم عليا لحد ما اموت.
ارتفع جانب وجهها في بسمة مقهورة قبل أن تهمس شاكرة:
-متشكرة لو هتهتم بأولادك فكتر خيرك، هما في الأول ولا في الأخر ولادك،
أما أنا، فأنا مش عال على حد، وهعرف أشتغل وأصرف على نفسي.
حاول الاقتراب منها لكنها وقفت في حدة تشعر بالعضب داخلها يثور ثم قالت في نبرة جادة رغم اهتزازها:
-أنا خدت قراري!
وقف "طارق" أمامها في صمت ووجه شاحب من كلماتها التالية لكنها رفعت رأسها تمتهن القوة وان لم تمتلك ذرة منها، مستكملة:
-أنا مش هتطلق.
جذب أنفاس يخفف بها جنون قلبه المضطرب وقبل أن يقترب منها خطوة، رفعت كفها أمامه تمنعه مستمرة:
-لكن هعيش معاك في عرف المطلقين!
-مش فاهم، يعني أيه عرف المطلقين؟
أخبرها بعدم فهم وقد تجمد في مكانه يحاول مراقبه ملامحها المضطربة فردت:
-يعني أنا هعيش في بيتي ومع عيالي لوحدي وأنت هتفضل هنا زي ما أنت،
وهتعاملني كأني متحرمه عليك!
انخفض بصره للأسفل قبل أن يتهمها في حرقة:
-قلبك قاسي أوي يا خديجة!
-بعضًا مما عندكم يا طارق بيه!
أخبرته في استخفاف مناقض للعبرات المنبثقة على وجهها، فهز رأسه مؤكدًا:
-وماله يا خديجة حقك، وأنا موافق لأني متأكد أنك مش هتقدري تعيشي من غيري زي ما أنا مش هقدر أكمل من غيرك،
ويكفيني وجودك قدام عيني،
ياعالم بكره هيحصل أيه!
***
لطمت فوف رأسها مرة توقف صدى كلماته من عقلها ... فآآه مما حدث في الغد، فما هي إلا شهور قليلة بعيدًا عنه حتى تأكدت انها لا تطيق
غيابه عن عينها، حاولت التمسك بغضبها وكرامتها المهدورة على يده، حاولت
تذكر كيف كانت مشتعلة وقتها مصرة على الطلاق لكنها في اللحظة التالية تتذكر محاولات طارق الرافض التخلي عنها مؤكدًا على حبه لها
وعدم خيانته، فيبرد بذلك قلبه.
هي ليست غبية، تدرى أنه لم يخنها خيانة كاملة ولكنها لا تكف عن التساؤل حول ماذا
كان سيحدث إن لم تتواجد هناك وتتدخل!
بالإضافة أن تقرب "ميري" منه مستحيل أن يكن للمرة الأولى، فلابد من حدوث تجاوزات بينهما من قبل، وتقتلها حقيقة أن زوجها كان مدرك لاهتمام الشمطاء الاستثنائي به ولكنه لم يفعل شيء بل أسوأ هو قرر الاحتفاظ بعمله ومسايرة الوضع مستمتعًا برغبة إحداهن به، قرر الحفاظ على كل الحبال عداها.
هي من ضحت بأحلامها وكيانها
واقتصرت حياتها وعلاقاتها عليه هو وأسرته، هي من كانت تحارب للبقاء في أبهى حالتها كي لا تأتي أخرى وتسرقه.
هربت منها عبراتها الحارة في قهر بينما تكتم صوتها كي لا تزعج الصغيران النائمان متعجبة سذاجتها،
كيف كانت غبية لهذه الدرجة؟
كيف وصل بها الحال بأن تبقى معلقة بهذه الطريقة داخل هذا المنزل؟
كيف تخلت عن مكانتها كفرد طبيعي له حياة خارج إطار الأسرة، حتى الصداقة كانت وهمية؟!
-آآآه ...
تأوهت تخرج جراح قلبها، فقد صدمها الواقع وزعزع استقرارها وامانها ودمر ثقتها في
نفسها وجعل عقلها يدور في أسئلته الوجودية دومًا خاصة هذا التساؤل بماذا
سيحدث لها إن انتهى الحب وفرغ من قلب طارق وقرر التخلي عنها؟
تعترف انها مع مرور الأيام تنازلت عن فكرة الطلاق نهائيًا مكتفية بفكرة تلقينه درسًا ولن تنكر انها كانت سعيدة بمحاولاته لاسترضائها
لكنها ابدًا لم تكن ستعود إلا بعد تحقيق الذات، فبقاءها دون عمل وضع داخلها هواجس لا تنتهي.
ونجحت بالفعل بعد خمسة أشهر طويلة من الفراق الضمني ان تحصل على عمل بسيط في مكتب شقيق زوج "مرام" ولن تنكر مساعدات
مرام وسهيلة لها، فبرغم ما حدث إلا انها لا تملك ضغينة نحو العجوز فعلى العكس ساندتها "سهيلة" ودفعتها للحصول على عمل ودفعتها دفعًا لمواجه الحياة.
ولن تنسى لها ابدًا إنها من وقفت في وجه طارق الذي جن جنونه ما ان علم بحصولها على العمل، متذكرة كيف حطمها الأحمق بأقواله الخارجة ومؤكدًا نفاذ صبره منها.
جعلتها تهديداته المبطنة تعود لقوقعتها الماضية وتبدأ خطواتها معه من خانة الصفر وما حطمها أكثر هو تعمده لتجاهلها وكأنه يعاقبها في غباء، مما جعلها تلقي رغبتها في العودة إليه في علبة مغلقة في باطن رأسها وتصر على موقفها بالابتعاد متمسكة بالتحدي والعناد.
زفرت مستغفره الله ترمي بحمولتها إليه بينما تضم صغيرتها نحوها تخفي وجهها الباكي في عنقها داعية الله أن يخفف عنها بالنوم قريبًا وان تجد مقر من ألامها.
*****
مرت أيام رتيبة هادئة على حياة "طارق" و "خديجة" التي تعمدت عدم التواجد معه في نفس المكان لكنها لم تستطع منع نفسها من سرقة لحظات تهدئ بها قلبها من خلال انتظاره في كل مساء ولكن هذا المساء اتخذ منحنى أخر.
-يا بنتي بطلي عياط عشان خاطر ربنا، تعبت !!
قالت "خديجة" لأبنتها ذات العامان والتي تعكف على البكاء والتذمر لما يقارب الساعة، بسبب رفضها بأن تذهب مع مرام للمبيت معها هي وزوجها ومن وقتها وتلك المشاغبة الصغيرة تثير جنونها ببكائها المعترض:
-منك لله يا مرام، كان لازم تقولي أخدها تبات معايا!
تمتمت ثم حاولت "خديجة" تجاهل الوضع على أمل أن تيأس الصغيرة وتصمت من تلقاء نفسها، تنهدت ممسكة رأسها تشعر بألم مريع يتملكها وتنفست في هدوء تحاول أن تطلق رغبتها وتشاركها في البكاء.
وصل "طارق" وتعجب عندما وصل المنزل دون أن يلمح طيف محبوبته عند النافذة كالمعتاد، شعر بحزن طفيف وقد انطفئت شعلة الامل داخله لكنه صعد في صمت على الدرج.
ما أن وصل امام منزل والدته بعقل ممتلئ بالتساؤلات حتى أتاه صوت صراخ وبكاء "أيتن" ووقف يفكر ترى هل يجب عليه الصعود والاطمئنان؟
حرك رأسه في نفي فأخر مرة حاول الصعود فيها وقفت تهلل له مهدده بأنها ستعود لمنزل والديها بحثًا عن الخصوصية، انتفض مرتبكًا مما اوقع سلسلة المفاتيح من بين أصابعه حين وصله صوت صراخ "خديجة" المرافق لصغيرته.
-أيه الجنان ده!
غمغم بينما يهرع راكضًا على الدرج بقلب يدق في عنفوان ثم دق الباب هاتفًا:
-خديجة، أنا طارق افتحي!
توقع أن ترميه بسيل من السباب أو أن تصيح فيه رافضة ولكنه سمعها تقتربت بابنته الباكية من الباب قبل أن تفتح له، انتقلت نظراته من وجهها الباكي المتعب إلى وجه ابنته المنتفخ من شدة البكاء متسائلًا:
-أيه اللي حصل بتعيطوا كده ليه، انتوا تعبانين؟
حاولت التحامل على اختناقها وكتم رغبتها في الاستمرار بالبكاء كي تجيبه في نبرة خافته باكية متجاهلة إنه يتخطى قوانينها وأعرافها بصعوده:
-أيتن بتعيط عشان مخلتهاش تروح مع مرام وجمال ومش راضية تسكت بقالها ساعتين بتعيط!
لم ينتظر طارق أن تدعوه للدخول ودلف مغلقًا الباب خلفه ثم مد أصابعه يلتقط الصغيرة قائلًا في عتاب:
-ينفع العياط ده، في بنت شطورة تعمل كده!
نظرت له "أيتن" بطفولية حانقة قبل ان تنفجر في موجة بكاء جديد تعترض على كلماته المؤنبة فما كان من خديجة إلا وضعت كفيها فوق رأسها تاركة نفسها للبكاء بصوتً يوازي علو صوت الصغيرة.
ارتبك "طارق" لا يفهم سبب بكاءها هي الأخرى فنظر لها وكأنها مجنونة متسائلًا في ذهول:
-أنتي بتعيطي ليه دلوقتي؟
حدجته بنظرة غاضبة وكأنه غبي بينما تمسح عبراتها بكفها مزمجره في هجوم:
-عشان بنتي بتعيط وأنا مش عارفة أعمل أيه يسكتها!
ارتفع حاجباه في استنكار مقررًا عدم محادثتها الآن، وصب جام اهتمامه بالصغيرة فبدء في مداعبتها والهمس في اذنها وهو يهزها بين ذراعيه في دلال.
ضاقت عيون "خديجة" في انزعاج وحقد وهي ترى انسجام كليهما، تابعت كيف يقبل أعلى رأس طفلتها يواسيها وكأنها نجمة من السماء، وكيف تتعلق هي برقبته في حب وسكون بينما... هي ... هي وحيدة ... لا يهتم بها أحد مطلقًا أو بمشاعرها، سقطت عبراتها من جديد فزفر طارق الذي يدعي عدم الانتباه لها قبل أن يطلب من بين أسنانه:
-ممكن تبطلي عياط انتي كده هتخليها تعيط تاني!
-ايوة صح أنا السبب، أقولك اشبع أنت وبنتك انا رايحه أنام، أنا من حقي كأنسانه إني أنام!!
هتفت غير مصدقه وقاحته ثم اندفعت إلى غرفتها مقررة عقاب كليهما بالانسحاب والنوم، فليشبع كلاهما بالأخر حد التخمة!